04 نوفمبر 2024
حوار صباحي مع سائق تونسي
مطر غزير يضرب نوافذ التاكسي الذي يقلني في طريقي إلى السوق العربي في تونس، يحاول السائق المهذب مجاملتي بالبحث عن أغنيات مشرقية، يعثر أخيراً على أغنية لجورج وسوف يؤديها، بصوت أجش متحشرج، لا يثير في نفسي سوى الامتعاض. وقبل أن يشعر بلذة الإنجاز، أبادره بالقول إنني لا أحب هذا المطرب البائس، يستهجن موقفي المعادي، حين أقول إن صوته قبيح وشخصيته منفرة، يؤكد أنه محبوب جداً بين جماهير الشباب التونسية. أقترح عليه لطفي بشناق، يهتف بغضب (إحنا ما نحبوش بشناق). أوف ليش؟ هيكا شايف روحو برشه، مغرور يعني. طيب صابر رباعي، صوت جميل وحضور أنيق. يحتد بصورة أكبر، هذا منحبوش أيضاً، لأنه طلق مراته حديثاً. أخيراً، نتوصل إلى اتفاق حين يدير المسجل على أغنية بالإنجليزية، لا شك في أنها تعبر عن نساء كثيرات، حققت منذ ظهورها أواخر السبعينيات نجاحا كونياً باهراً، وترجمت إلى لغات عديدة، مع الاحتفاظ باللحن الثوري المتمرد نفسه. غلوريا جونيور تغني بلهجة حازمة: هيا انصرف الآن، استدر، واذهب بعيداً، لم تعد موضع ترحيب، هل ظننت أنني سأموت من بعدك .. لدي حياة كاملة لأعيشها، سوف أنجو.. نعم سوف أنجو.
أسأل السائق عن شعوره بمناسبة حصول اللجنة الرباعية للحوار الوطني في تونس على جائزة نوبل للسلام. أطلب منه أن يحدثني عن ثورة الياسمين. أسأله عن المحامي الذي هتف منفعلاً في ظلمة شوارع تونس الصامتة آنذاك بتأثر كبير: بن علي هرب. وأسأله عن الرجل الطيب صاحب المقولة الأشهر في تاريخ الثورات، والتي ذهبت مثلاً لشدة بلاغتها: لقد هرمنا. بتململ مبدياً الضجر وقلة الاكتراث، يرد: المهم الآن نحاول نعيش، ثم يشرع في التذمر من الغلاء الفاحش. يضيف محاولاً مجاراة رؤيتي الشاعرية القاصرة للمشهد: صحيح أن الناس يتحدثون بحرية، ويعبرون عن آرائهم بصراحة، لكن هذا لا يكفي. هناك من يستغل هذا الفضاء من الحرية المباغتة، بعضهم لا يحترم القانون. أنظري إلى هذا الدكان الذي اعتدى صاحبه على الرصيف، ونشر بضاعته معرقلاً حركة المارة. قبل الثورة، لم يكن ليجرؤ على فعلة كهذه، كانوا سيعاقبونه بلا رحمة. زمان لم نكن نجرؤ على البوح بمشاعرنا، حتى ضمن جدران بيوتنا، خوفاً من التبعات الأمنية. ذلك النظام المخابراتي البوليسي الجائر حرمنا من الطمأنينة. الخوف من الآخر كان عنوان حياتنا. انظري إلى هذه البحيرة الجميلة التي يتوزّع على جنباتها صيادون يلقون صناراتهم بشكل روتيني على أمل توفير رزق يومهم. زمان كانت حكراً على آل طرابلسي يصدّرون أسماكها الوفيرة إلى إيطاليا، في حين يمنع المواطنون من الاقتراب تحت طائلة الحبس.
مشيت في أزقة السوق العربي الضيق، شديد الاكتظاظ، الواقع في وسط البلد. ازدحام كثيف، أصوات الباعة تشق الفضاء، محلات البهارات بروائحها النفاذة. لاحظت الارتياح الكبير الذي تحسه المرأة التونسية الجميلة صاحبة الشخصية القوية، المعتدة بذاتها، متصالحة مع نفسها، غير مضطرة للاعتذار عن أنوثتها. لا يجرؤ أحد على التحرش بها، أو إيذائها، ولو بكلمة. لفتني أيضاً تهذيب الرجل التونسي الحضاري الذي يبدي تقديراً كبيراً للمرأة، بغض النظر عن طريقة لباسها، ثمة احترام كبير لخصوصيتها، يلمسه المراقب بشكل جلي، أبهجني بشكل خاص اختفاء صور بن علي الضخمة من المباني الحكومية وجدران الشوارع وواجهات المحلات. تناهى إلى سمعي حوار صاخب بين شبان توانسة، حول أحداث فلسطين، كانوا يتحدثون ببهجة عن بشائر انتفاضة ثالثة، وجدت نفسي أدندن وسط السوق وبفرح كبير: سوف أنجو، نعم سوف أنجو.
أسأل السائق عن شعوره بمناسبة حصول اللجنة الرباعية للحوار الوطني في تونس على جائزة نوبل للسلام. أطلب منه أن يحدثني عن ثورة الياسمين. أسأله عن المحامي الذي هتف منفعلاً في ظلمة شوارع تونس الصامتة آنذاك بتأثر كبير: بن علي هرب. وأسأله عن الرجل الطيب صاحب المقولة الأشهر في تاريخ الثورات، والتي ذهبت مثلاً لشدة بلاغتها: لقد هرمنا. بتململ مبدياً الضجر وقلة الاكتراث، يرد: المهم الآن نحاول نعيش، ثم يشرع في التذمر من الغلاء الفاحش. يضيف محاولاً مجاراة رؤيتي الشاعرية القاصرة للمشهد: صحيح أن الناس يتحدثون بحرية، ويعبرون عن آرائهم بصراحة، لكن هذا لا يكفي. هناك من يستغل هذا الفضاء من الحرية المباغتة، بعضهم لا يحترم القانون. أنظري إلى هذا الدكان الذي اعتدى صاحبه على الرصيف، ونشر بضاعته معرقلاً حركة المارة. قبل الثورة، لم يكن ليجرؤ على فعلة كهذه، كانوا سيعاقبونه بلا رحمة. زمان لم نكن نجرؤ على البوح بمشاعرنا، حتى ضمن جدران بيوتنا، خوفاً من التبعات الأمنية. ذلك النظام المخابراتي البوليسي الجائر حرمنا من الطمأنينة. الخوف من الآخر كان عنوان حياتنا. انظري إلى هذه البحيرة الجميلة التي يتوزّع على جنباتها صيادون يلقون صناراتهم بشكل روتيني على أمل توفير رزق يومهم. زمان كانت حكراً على آل طرابلسي يصدّرون أسماكها الوفيرة إلى إيطاليا، في حين يمنع المواطنون من الاقتراب تحت طائلة الحبس.
مشيت في أزقة السوق العربي الضيق، شديد الاكتظاظ، الواقع في وسط البلد. ازدحام كثيف، أصوات الباعة تشق الفضاء، محلات البهارات بروائحها النفاذة. لاحظت الارتياح الكبير الذي تحسه المرأة التونسية الجميلة صاحبة الشخصية القوية، المعتدة بذاتها، متصالحة مع نفسها، غير مضطرة للاعتذار عن أنوثتها. لا يجرؤ أحد على التحرش بها، أو إيذائها، ولو بكلمة. لفتني أيضاً تهذيب الرجل التونسي الحضاري الذي يبدي تقديراً كبيراً للمرأة، بغض النظر عن طريقة لباسها، ثمة احترام كبير لخصوصيتها، يلمسه المراقب بشكل جلي، أبهجني بشكل خاص اختفاء صور بن علي الضخمة من المباني الحكومية وجدران الشوارع وواجهات المحلات. تناهى إلى سمعي حوار صاخب بين شبان توانسة، حول أحداث فلسطين، كانوا يتحدثون ببهجة عن بشائر انتفاضة ثالثة، وجدت نفسي أدندن وسط السوق وبفرح كبير: سوف أنجو، نعم سوف أنجو.