"فيك ناس يا ليل بيشكولك مواجعهم.. بالله يا ليل ما تبقاش توجّعهم"... تغمض عينَيها وهي تستطيب صوت المغنّية الشابة. كانت تلك أمسية رمضانيّة تحييها دالين جبّور في أحد مسارح بيروت.
تكمل موّالها. مذ سمعتها للمرّة الأولى، أُخِذت بصوتها. ويعود إليها إنشادها الرمضانيّ في ذلك الحفل قبل عامَين، في مسرح بيروتيّ آخر. ويعود إليها دوران ذلك الراقص الصوفيّ، على إيقاع صوت المنشدة. في تلك الليلة، كان مزيج الكلام والألحان والرقص أكثر من إشباع للروح.
تضرب دالين جبّور براحة يدها وبأصابعها على البندير وتكمل مع مجموعة مختارة من الموشّحات والأغاني الطربيّة، قبل أن تختم أمسيتها برائعة أحمد شوقي "يا جارة الوادي طربت وعادني ما زادني شوقاً إلى مرآك.. ولكم على الذكرى بقلبي عبرة والذكريات صدى السنين الحاكي".
الذكرى.. الذكريات.. وتعود إليها رغبتها تلك في فقدان الذاكرة. هي غير مستجدّة، كانت قد رجتها في سنيّ مراهقتها.. وتعود.
هي رغبة في تلاشي ماضٍ يسكننا.. رغبة في التحرّر من كلّ ألم وهاجس ووهم.. رغبة في التخلّص من رواسب خبرات موجعة ولحظات محبطة ويأس جارف واكتئاب طال. واللحظات الحلوة؟ لا بأس. تعوّضها في وقت لاحق. تُوهم نفسها بأن الذكريات التي قد تتشكّل لاحقاً، لن تكون إلا مليحة بديعة. توهم نفسها بحياة جديدة "لونها بامبي".
لطالما ردّدت رغبتها تلك، بشيء من المزاح. ولطالما سخر منها من حولها. فقط معالجتها النفسيّة أدركت ما ترجوه. أليست مهمتها في الأساس، إدراك ما تستره الذات البشريّة.
رغبتها تلك ما هي سوى توقٍ إلى البدء من جديد.. إلى بداية خالية من ندوب غائرة عميقاً في الروح. هذا ما خرجت به في إحدى جلساتها مع معالجتها، قبل أن تنقطع عنها. قد يكون عُريها الذي ظهر واضحاً أمامها، هو ما دفعها إلى الانقطاع. كثيراً ما ننقطع عن هؤلاء الذين يدركون أعماقنا. ومعالجتها تلك كانت كأنها حفظتها عن ظهر قلب، كانت كأنها كمشت كثيراً مما كتمته هي في داخلها أو كتمه لاوعيها. كانت كأنها فضحتها.
بالنسبة إلى سيغموند فرويد، أب التحليل النفسي، نحن لا نفقد أبداً الذكريات التي ننساها. وتشتدّ رغبتها. هي رغبة في فقدان الذاكرة، حتى لا نضطرّ إلى الانتقال إلى الجانب الآخر من الطريق عند مصادفتنا ذكرياتنا. أما إيميل سيوران، الفيلسوف الروماني، فيرى أن وظيفة الذاكرة ليست إلا إسعافنا على الندم. هي حسمت أمرها قبل زمن.. الندم للضعفاء.
وترغب أكثر في فقدان ذاكرتها. تتوقّف لحظة. هي لن تشعر ربما بأي ألم من جرّاء ذلك "الفقدان"، إلا أنه قد يطال مَن حولها. هي لطالما حرصت على هؤلاء. وتتردّد..
تضرب جبّور على بنديرها، وتشدو "ولكم على الذكرى بقلبي عبرة والذكريات صدى السنين الحاكي"...
اقرأ أيضاً: يا نايم وحّد الدايم