31 أكتوبر 2024
خراب الاجتماع الوطني في سورية ولبنان
لم يكن تحرير جنوب لبنان، في مايو/ أيار من العام 2000، مناسبة لتعزيز التماسك الوطني اللبناني، لأن فعل التحرير لم يكن من صنع لبنانيٍّ عمومي، ولم يكن مطابقاً للفكرة الوطنية، لا من حيث جسد أداة التحرير (حزب الله) ولا من حيث فكرها، فالأداة، مثل كل تنظيمات الإسلام السياسي، جسدٌ مذهبي الطابع، وفكرها منزاحٌ عن الفكرة الوطنية، ويتماشى مع تصوّرات دينية تقل فيها قيمة "الوطن" ومتطلباته، أمام قيمة الدين ومتطلباته. لا شيء يعلو فوق "التكليف الشرعي".
كان لبنان طوال عقدين تقريباً (1982 - 2000) أمام إنجاز مهمةٍ وطنيةٍ أساسيةٍ تتولاها قوة غير وطنية، نقصد أنها تقتصر في جسدها على فئةٍ مذهبيةٍ، وتصدر في دوافعها وفي كفاحيتها عن فكر مذهبي، لا محل فيه لمفهوم الوطن الحديث. لذلك من الطبيعي أن لا يجد الأمين العام لحزب الله أي تعارضٍ بين كفاحه "الوطني" في لبنان وإعلانه الولاء التام لدولة أجنبية (إيران) تمثل الجهاز الحركي للمذهب الديني المشترك الذي يعتبر الحزب نفسه جزءاً منه.
كان الأداء العسكري لحزب الله في لبنان ضد إسرائيل باهراً، وقد فرض على جيش الاحتلال الانسحاب من جنوب لبنان بالقوة. ولا عجب في أن الحزب حظي بشعبية واسعة في طول
البلاد العربية وعرضها، شعبيةً تخطت الحدود بين الدول، وتخطت الحدود الدينية والمذهبية، وتخطت حدود الفروق السياسية. دفعت كفاحية حزب الله وثباته وبطولته بعض الشيوعيين، على سبيل المثال، إلى اعتباره التجسيد الصحيح لحزب شيوعي. لا عجب، فلأول مرة تجد الشعوب العربية إسرائيل تُهزم وتجبر فعلاً على إعادة أرضٍ مغتصبةٍ تحت ضربات تنظيم عسكري ذي انضباط عالٍ، وميزات قتالية مثيرة للإعجاب. غير أن هذا الإنجاز لم يكن مقدّراً له أن يمضي خطوة واحدة على طريق بناء دولة وطنية متماسكة. على الرغم من أن الحزب أظهر قدراً كبيراً من المسؤولية غداة التحرير، فلم يمارس سياسة انتقامية ضد من تعاون مع إسرائيل، ولم يعط لنفسه الأحقية بحكم البلاد بوصفه "بطل التحرير". مع ذلك، سارت الأمور في اتجاه معاكس لبناء اجتماع سياسيٍّ وطنيٍّ متماسكٍ في لبنان. كان الخيار الأفضل للبنان، من الزاوية الوطنية، أن يحل الحزب نفسه، بعد التحرير، بوصفه قوة مذهبية، وأن يضع قدراته وخبراته العسكرية تحت تصرّف الدولة اللبنانية. ينكتب هذا هنا، ويعلم كاتبه أنه من باب الخيال الافتراضي لا أكثر.
اليوم، ونظراً إلى هذا التعارض بين الأداة والمهمة، بين الأداة الدينية والمهمة الوطنية، نجد أن تاريخ 25 مايو/ أيار من كل عام، هو عيد لحزب الله أكثر مما هو عيد وطني لكل اللبنانيين. أكثر من ذلك، ربما لا تقل المنعكسات السياسية لذاك التحرير سوءاً عن بقاء الاحتلال. في الحالين، نحن أمام مجتمع منقسم على نفسه، وبجهاز دولة ضعيف، ولا يسيطر على مجاليه، الجغرافي والسياسي. ولم يكن خافياً، فوق هذا، أن فئة غير قليلةٍ من اللبنانيين انحازت في قلبها إلى إسرائيل ضد حزب الله في حرب تموز 2006. وهذه الحقيقة مؤلمة، وتعبر عن مستوى عميقٍ من الخراب الوطني الذي يمكن أن يحل في البلاد، حين تُحتكر قيمة عامة (المقاومة) في يد قوةٍ خاصةٍ (حزب مذهبي)، وتخسر بذلك قيمتها الوطنية.
في الواقع، لا يكون في استطاعة حزب الله التحرّر من المسار الذي قاده إلى ما هو فيه اليوم، حتى لو افترضنا أنه يريد ذلك، إلا بأن يحل نفسه. لأنه لا يستطيع أن يخرج من الاستراتيجية الإيرانية التي نشأ فيها، وأنشأ كوادره على اعتبارهم جزءاً منها. ولم يكن باستطاعته أن يمنع تحول علاقته مع إسرائيل، بعد حرب تموز 2006 بصورة خاصة، من علاقة تضادّ، (مقاومة ومحتل)، إلى علاقة تعايش، (مصلحة متبادلة).
صحيح أن حزب الله ظل يردع إسرائيل من استباحة لبنان، وهذا وجه جيد، ولكنه، من ناحية أخرى، ظل "يردع" تشكل دولة وطنية لبنانية، دوره في ذلك كدور بقية الأحزاب الطائفية في لبنان، ولكن قوة دوره الخاص تنبع من قوته العسكرية التي تفوق قوة الدولة اللبنانية.
شيء مشابه لهذا الانزياح المدمّر للاجتماع السياسي في لبنان يُشاهَد في سورية اليوم. الدولة السورية التي يفترض أنها مؤسسة وطنية عامة استولت عليها، استيلاء "أبدياً"، سلطةٌ تفرض نفسها على السوريين بالقوة، وتستخدم كل مقدّرات الدولة، بما في ذلك القيمة المعنوية لفكرة الدولة، كي تغلق كل سبل التغيير السياسي في البلاد. وقد وضع هذا الواقع غالبية السوريين في حالة اغترابٍ متزايد عن الدولة التي تحوّلت إلى ما يشبه الملكية الخاصة لطغمة حاكمة. وحين انفجر المجتمع السوري ضد الطغمة الحاكمة، وجد نفسه في مواجهة الدولة ككل، فتحولت العلاقة مع الدولة إلى علاقة عداء.
انتهى الأمر بسوريين كثيرين إلى معاداة ما يفترض أنها دولتهم، وإلى رفض رموزها كالعلم
والنشيد الوطني. رفضوا حتى فريق كرة القدم التابع للدولة. لم يعد لدى قسم كبير من السوريين مشاعر انتماء مشترك مع "الجيش الوطني" الذي تحوّل إلى قوة لقمع المجتمع وإخضاعه. من المعروف أن بعض السوريين قاموا، في غضون ثورتهم، بتدمير أسلحةٍ تابعةٍ للجيش السوري، ولا يمكن أن تستخدم في القمع، مثل أسلحة الدفاع الجوي. هذا يعبر، بطبيعة الحال، عن رفض عدائي تام للجيش، بوصفه الجزء الأهم من دولةٍ "عدو". ومعروف أيضاً أن قسماً مهماً من السوريين أضحوا لا مبالين، وعلى الأرجح مرحّبين، بالضربات التي يتلقاها الجيش السوري من الطيران الإسرائيلي. يتكرّر الموقف الذي اتخذه قسم من اللبنانيين ضد حزب الله في 2006 في سورية ضد الدولة السورية بعد 2011. ولا يمكن رد الموقفين إلى لا وطنية شعبية هنا أو هناك، كما يكرّر الممانعون، بل إلى استيلاء "قطاع خاص" على القيم والمؤسسات الوطنية العامة.
في لبنان، تدهورت المقاومة، لتستقر على حالٍ لا علاقة له بالمقاومة، وليس بلا دلالةٍ شيوع مفردة الممانعة بدلاً من المقاومة، فالممانعة هي جعل المقاومة وسيلةً للحفاظ على السلطة، وليس للتحرير، أو هي المتاجرة بالمقاومة. وفي سورية، تدهورت مؤسسة الدولة، وخسرت عموميتها لكي تصبح مجرّد طرفٍ في صراع داخلي. من طبيعة الأمور أن يسارع الحزب اللبناني الذي استولى على المقاومة، وخنق فيها بعدها الوطني العام، لنجدة الطغمة السورية التي استولت على الدولة، وخنقت فيها بعدها الوطني العام. الوطنية هي الضحية الأولى لهؤلاء "الوطنيين" هنا وهناك. وقد تعقدت المشكلة الوطنية أكثر، حين استجرّ هذا التحالف التدميري استجاباتٍ من طبيعةٍ مشابهة له، ومخرّبة للاجتماع الوطني في سورية وفي لبنان.
كان الأداء العسكري لحزب الله في لبنان ضد إسرائيل باهراً، وقد فرض على جيش الاحتلال الانسحاب من جنوب لبنان بالقوة. ولا عجب في أن الحزب حظي بشعبية واسعة في طول
اليوم، ونظراً إلى هذا التعارض بين الأداة والمهمة، بين الأداة الدينية والمهمة الوطنية، نجد أن تاريخ 25 مايو/ أيار من كل عام، هو عيد لحزب الله أكثر مما هو عيد وطني لكل اللبنانيين. أكثر من ذلك، ربما لا تقل المنعكسات السياسية لذاك التحرير سوءاً عن بقاء الاحتلال. في الحالين، نحن أمام مجتمع منقسم على نفسه، وبجهاز دولة ضعيف، ولا يسيطر على مجاليه، الجغرافي والسياسي. ولم يكن خافياً، فوق هذا، أن فئة غير قليلةٍ من اللبنانيين انحازت في قلبها إلى إسرائيل ضد حزب الله في حرب تموز 2006. وهذه الحقيقة مؤلمة، وتعبر عن مستوى عميقٍ من الخراب الوطني الذي يمكن أن يحل في البلاد، حين تُحتكر قيمة عامة (المقاومة) في يد قوةٍ خاصةٍ (حزب مذهبي)، وتخسر بذلك قيمتها الوطنية.
في الواقع، لا يكون في استطاعة حزب الله التحرّر من المسار الذي قاده إلى ما هو فيه اليوم، حتى لو افترضنا أنه يريد ذلك، إلا بأن يحل نفسه. لأنه لا يستطيع أن يخرج من الاستراتيجية الإيرانية التي نشأ فيها، وأنشأ كوادره على اعتبارهم جزءاً منها. ولم يكن باستطاعته أن يمنع تحول علاقته مع إسرائيل، بعد حرب تموز 2006 بصورة خاصة، من علاقة تضادّ، (مقاومة ومحتل)، إلى علاقة تعايش، (مصلحة متبادلة).
صحيح أن حزب الله ظل يردع إسرائيل من استباحة لبنان، وهذا وجه جيد، ولكنه، من ناحية أخرى، ظل "يردع" تشكل دولة وطنية لبنانية، دوره في ذلك كدور بقية الأحزاب الطائفية في لبنان، ولكن قوة دوره الخاص تنبع من قوته العسكرية التي تفوق قوة الدولة اللبنانية.
شيء مشابه لهذا الانزياح المدمّر للاجتماع السياسي في لبنان يُشاهَد في سورية اليوم. الدولة السورية التي يفترض أنها مؤسسة وطنية عامة استولت عليها، استيلاء "أبدياً"، سلطةٌ تفرض نفسها على السوريين بالقوة، وتستخدم كل مقدّرات الدولة، بما في ذلك القيمة المعنوية لفكرة الدولة، كي تغلق كل سبل التغيير السياسي في البلاد. وقد وضع هذا الواقع غالبية السوريين في حالة اغترابٍ متزايد عن الدولة التي تحوّلت إلى ما يشبه الملكية الخاصة لطغمة حاكمة. وحين انفجر المجتمع السوري ضد الطغمة الحاكمة، وجد نفسه في مواجهة الدولة ككل، فتحولت العلاقة مع الدولة إلى علاقة عداء.
انتهى الأمر بسوريين كثيرين إلى معاداة ما يفترض أنها دولتهم، وإلى رفض رموزها كالعلم
في لبنان، تدهورت المقاومة، لتستقر على حالٍ لا علاقة له بالمقاومة، وليس بلا دلالةٍ شيوع مفردة الممانعة بدلاً من المقاومة، فالممانعة هي جعل المقاومة وسيلةً للحفاظ على السلطة، وليس للتحرير، أو هي المتاجرة بالمقاومة. وفي سورية، تدهورت مؤسسة الدولة، وخسرت عموميتها لكي تصبح مجرّد طرفٍ في صراع داخلي. من طبيعة الأمور أن يسارع الحزب اللبناني الذي استولى على المقاومة، وخنق فيها بعدها الوطني العام، لنجدة الطغمة السورية التي استولت على الدولة، وخنقت فيها بعدها الوطني العام. الوطنية هي الضحية الأولى لهؤلاء "الوطنيين" هنا وهناك. وقد تعقدت المشكلة الوطنية أكثر، حين استجرّ هذا التحالف التدميري استجاباتٍ من طبيعةٍ مشابهة له، ومخرّبة للاجتماع الوطني في سورية وفي لبنان.