08 نوفمبر 2024
''خُدَّام الدولة'' في المغرب
بدأت القضية بتسريب خبر استفادة محافظ جهة الرباط، سلا، القنيطرة، من أرض في حي راق في العاصمة المغربية بثمن يكاد يكون رمزيا، استنادا إلى مرسوم للوزير الأول يعود إلى العام 1995 على عهد الملك الراحل، الحسن الثاني. ولتطويق تداعيات الخبر على الرأي العام، سارعت وزارتا الداخلية، والاقتصاد والمالية، إلى إصدار بلاغ (بيان) مشترك أكدتا فيه أن الأمر يتعلق بـ ''تجزئة سكنية، مخصصة لموظفي وخُدَّام الدولة (..)، وأن ثمن وشروط اقتناء القطع الأرضية التابعة لهذه التجزئة، يحدّدها بتدقيق مرسوم للوزير الأول صادر بتاريخ 26 دجنبر(ديسمبر) 1995''. لم يكتف البلاغ بذلك، بل اعتبر أن حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة يقف خلف هذه القضية، فما جرى، حسب البلاغ، ''يوضح أن الأمر يتعلق بحملة انتخابية سابقة لأوانها، لاعتباراتٍ سياسوية ضيقة، الهدف منها تحقيق مكاسب انتخابوية صرفة''.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل سرعان ما تم تسريب قائمة بأسماء مسؤولين آخرين، مستشارين ملكيين ووزراء وولاة وقادة أحزاب وعسكريين ودبلوماسيين وغيرهم كانوا ضمن المستفيدين من هذه البقع الأرضية. وبصرف النظر عن حيثيات هذا التسريب، وتوقيته الدال، والأسماء الواردة فيه، فإن وقعَه، بطبيعة الحال، كان صادماً على الرأي العام الذي رأى في ذلك ضرباً لمبادئ المواطنة والمساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص، التي نص عليها دستور 2011 الذي جاءت به رياح الربيع العربي قبل خمسة أعوام، فالمرسوم سالف الذكر لا يُجهز على مبدأ المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن وظائفهم وأصولهم الاجتماعية وقربهم من مواقع السلطة، بل يتعارض مع السياق السياسي الذي أعقب المتغيرات الدستورية والسياسية التي عرفها المغرب أخيراً، ويفترض أن تضعه على سكة الانتقال الديمقراطي الذي طال انتظاره. كما أن المرسوم يشكل تحدياً دالاً أمام الحكومة الحالية التي جعلت من مكافحة الفساد والريع أحد مرتكزات برنامجها الحكومي. كان يُفترض فيها أن تتمتع بالشجاعة السياسية، وتعمل على إلغائه بطريقة قانونية في مرسوم آخر، باعتبار ذلك إحدى واجهات معركة التأويل الديمقراطي للدستور الجديد، لكنها آثرت الصمت، ورفضت المثول أمام البرلمان لتقديم توضيحاتٍ، ولو شكلية، حول القضية. بل أكثر من ذلك، طلب رئيس الحكومة، عبد الإله بن كيران، من أعضاء حزبه عدم الخوض في بلاغ الوزارتين، حتى يتجنب فتحَ جبهة أخرى مع خصومه، في غنى عنها الآن.
وتستدعي القضية إشكالات مفصلية، ليس أقلها أهمية ما يخص المشروعية السياسية، وشرعية القانون، وتطور الرأي العام، والثابت والمتغير في مسارات التَّنخيب، وإكراهات الثقافة السياسية الحديثة، ومبدأ المواطنة الذي لا يستقيم مع مجتمع الرعايا. وفي الوسع القول إن القضية تحيل على تحدياتٍ كبرى، تواجهها بنية السلطة التي تقوم على مرتكزات سوسيو ثقافية تقليدية، تمتد عميقا في التاريخ السياسي والاجتماعي للمغرب، حيث تمثل علاقات الولاء والطاعة المقترنة بالريع والامتياز حجر الزاوية في بناء العالم السياسي، وإدراكه وتبريره، ما يجعلنا، في النهاية، إزاءَ ثقافةٍ سياسيةٍ تقليدية تواجه وعيا اجتماعيا متناميا بأهمية التحديث وضرورته.
هناك توتر يتشكّل داخل بنية مشروعية السلطة بين التقليد المتجذر بمختلف موارده السياسية والثقافية والرمزية، وموارد أخرى وافدة من نسق الحداثة السياسية؛ توتر يطرح، بقوة، إعادة صياغة علاقة الدولة بالمجتمع، في أفق التقليص من سطوة هذا التقليد، والحدّ من فعاليته الثقافية داخل النسيج الاجتماعي والسياسي. هذا التوتر يغذيه، بطبيعة الحال، رأيٌ عام، نشيط ومتعددٌ في توجهاته وانتماءاته الفكرية والإيديولوجية، ما فتئ يتطور ويستفيد مما تقدمه تقنيات ووسائط التواصل الحديثة من إمكانات غير مسبوقة، للاصطفاف والتعبير والاحتجاج السلمي والمنتج. صحيح أن هذا الرأي العام يجد ضالته، في الغالب، في مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية، لكن المتغيرات المجتمعية والثقافية الحاصلة كفيلة، مع الوقت، بدفعه صوب آفاق أخرى، يشتبك فيها أكثر بالواقع وإكراهاته.
لا يبدو انفجار قضية ''خُدام الدولة''، في هذا التوقيت، بعيدا عن رهانات محطة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل الانتخابية، وكذلك عن مخاوف قوى اجتماعية من تحول الإسلاميين إلى قوة حزبية وسياسية أساسية في السنوات المقبلة، إذا ما فازوا في الانتخابات، بما لذلك من تبعاتٍ قد تفضي إلى إعادة هندسة الحقل الحزبي والسياسي، ولو جزئيا. لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال المؤشرات التي تقدمها تداعيات هذه القضية، كما قضايا أخرى سابقة، بشأن ما باتت تواجهه مواقع التقليد داخل بنية السلطة في المغرب.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل سرعان ما تم تسريب قائمة بأسماء مسؤولين آخرين، مستشارين ملكيين ووزراء وولاة وقادة أحزاب وعسكريين ودبلوماسيين وغيرهم كانوا ضمن المستفيدين من هذه البقع الأرضية. وبصرف النظر عن حيثيات هذا التسريب، وتوقيته الدال، والأسماء الواردة فيه، فإن وقعَه، بطبيعة الحال، كان صادماً على الرأي العام الذي رأى في ذلك ضرباً لمبادئ المواطنة والمساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص، التي نص عليها دستور 2011 الذي جاءت به رياح الربيع العربي قبل خمسة أعوام، فالمرسوم سالف الذكر لا يُجهز على مبدأ المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن وظائفهم وأصولهم الاجتماعية وقربهم من مواقع السلطة، بل يتعارض مع السياق السياسي الذي أعقب المتغيرات الدستورية والسياسية التي عرفها المغرب أخيراً، ويفترض أن تضعه على سكة الانتقال الديمقراطي الذي طال انتظاره. كما أن المرسوم يشكل تحدياً دالاً أمام الحكومة الحالية التي جعلت من مكافحة الفساد والريع أحد مرتكزات برنامجها الحكومي. كان يُفترض فيها أن تتمتع بالشجاعة السياسية، وتعمل على إلغائه بطريقة قانونية في مرسوم آخر، باعتبار ذلك إحدى واجهات معركة التأويل الديمقراطي للدستور الجديد، لكنها آثرت الصمت، ورفضت المثول أمام البرلمان لتقديم توضيحاتٍ، ولو شكلية، حول القضية. بل أكثر من ذلك، طلب رئيس الحكومة، عبد الإله بن كيران، من أعضاء حزبه عدم الخوض في بلاغ الوزارتين، حتى يتجنب فتحَ جبهة أخرى مع خصومه، في غنى عنها الآن.
وتستدعي القضية إشكالات مفصلية، ليس أقلها أهمية ما يخص المشروعية السياسية، وشرعية القانون، وتطور الرأي العام، والثابت والمتغير في مسارات التَّنخيب، وإكراهات الثقافة السياسية الحديثة، ومبدأ المواطنة الذي لا يستقيم مع مجتمع الرعايا. وفي الوسع القول إن القضية تحيل على تحدياتٍ كبرى، تواجهها بنية السلطة التي تقوم على مرتكزات سوسيو ثقافية تقليدية، تمتد عميقا في التاريخ السياسي والاجتماعي للمغرب، حيث تمثل علاقات الولاء والطاعة المقترنة بالريع والامتياز حجر الزاوية في بناء العالم السياسي، وإدراكه وتبريره، ما يجعلنا، في النهاية، إزاءَ ثقافةٍ سياسيةٍ تقليدية تواجه وعيا اجتماعيا متناميا بأهمية التحديث وضرورته.
هناك توتر يتشكّل داخل بنية مشروعية السلطة بين التقليد المتجذر بمختلف موارده السياسية والثقافية والرمزية، وموارد أخرى وافدة من نسق الحداثة السياسية؛ توتر يطرح، بقوة، إعادة صياغة علاقة الدولة بالمجتمع، في أفق التقليص من سطوة هذا التقليد، والحدّ من فعاليته الثقافية داخل النسيج الاجتماعي والسياسي. هذا التوتر يغذيه، بطبيعة الحال، رأيٌ عام، نشيط ومتعددٌ في توجهاته وانتماءاته الفكرية والإيديولوجية، ما فتئ يتطور ويستفيد مما تقدمه تقنيات ووسائط التواصل الحديثة من إمكانات غير مسبوقة، للاصطفاف والتعبير والاحتجاج السلمي والمنتج. صحيح أن هذا الرأي العام يجد ضالته، في الغالب، في مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية، لكن المتغيرات المجتمعية والثقافية الحاصلة كفيلة، مع الوقت، بدفعه صوب آفاق أخرى، يشتبك فيها أكثر بالواقع وإكراهاته.
لا يبدو انفجار قضية ''خُدام الدولة''، في هذا التوقيت، بعيدا عن رهانات محطة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل الانتخابية، وكذلك عن مخاوف قوى اجتماعية من تحول الإسلاميين إلى قوة حزبية وسياسية أساسية في السنوات المقبلة، إذا ما فازوا في الانتخابات، بما لذلك من تبعاتٍ قد تفضي إلى إعادة هندسة الحقل الحزبي والسياسي، ولو جزئيا. لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال المؤشرات التي تقدمها تداعيات هذه القضية، كما قضايا أخرى سابقة، بشأن ما باتت تواجهه مواقع التقليد داخل بنية السلطة في المغرب.