10 نوفمبر 2024
داعش وفلسطين .. تحوّل جديد؟
على الأغلب، ينظر سياسيون ومراقبون إلى الشريط الصادر أخيرا عن المتحدث الجديد باسم تنظيم داعش (دولة الخلافة)، عشية الإعلان عن "صفقة القرن"، بوصفه بروباغندا إعلامية لكسب التأييد الشعبي، من دون أن تكون هنالك نتائج حقيقية ملموسة على أرض الواقع. وقد تبدو تلك القراءة، بالفعل، في جزءٍ منها صحيحة، فالتنظيم لم يدّع أنّ القضية الفلسطينية بمثابة أولوية له في القتال، إلّا بعدما خسر الأراضي التي يسيطر عليها، وانهارت سلطته، وقُتل أغلب قادته، وعاد إلى مرحلة الكرّ والفرّ، في العراق وسورية. هذا فضلاً أعن نّه (داعش) لا يملك الأدوات الواقعية المؤثّرة ليقوم بتغيير المعادلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
استنجاد المتحدث باسم التنظيم، أبو حمزة القرشي، بفروعه في سيناء والشام (هنالك فروع عديدة، تنظيم الدولة في سيناء - أنصار بيت المقدس سابقا، وكتائب عبدالله عزام، ومجموعات صغيرة) لن يلقى استجابة مؤثّرة، على الأقل في المرحلة الراهنة، لأنّ قدرة هذه التنظيمات وفعاليتها مرتبطتان بمعادلات محلية، وإمكانات لا تصل إلى إحداث ما يمكن تسميته "اختراقاً" في الملف الفلسطيني.
على الرغم من ذلك كله، تتوفر الرسالة على أهمية استراتيجية، إنْ كان حالياً على الصعيد الفكري فقط، فإنّه سيُترجم لاحقاً على مستوياتٍ مختلفةٍ واقعياً، وأهم تحوّل يحمله الخطاب الجديد أنّه ألغى حدوداً كبيرة وجداراً فاصلاً صلباً كان يقف بين إمكانية التحالف بين تنظيمي
القاعدة وداعش اللذين وصلت الخلافات بينهما، خلال الأعوام الماضية (بخاصة بين أبو بكر البغدادي والمتحدث باسمه حينها أبو محمد العدناني وأيمن الظواهري) إلى مرحلة التخوين والقطيعة، وأريقت دماء بين "داعش" وجبهة النصرة التي كانت تمثل حينها "القاعدة" في سورية (قبل أن ينقلب زعيمها أبو محمد الجولاني هو الآخر على الظواهري).
هذه الخلافات الجوهرية (تناولتها في كتاب مفصّل مع الصديق حسن أبو هنية "تنظيم الدولة الإسلامية: الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية") تعود في الأصل إلى مؤسس تنظيم داعش، أبو مصعب الزرقاوي الأردني، الذي كان قد اختلف، قبل ذلك، مع شيخه الروحي، أبو محمد المقدسي، فبينما كان الأخير يقرّ أن تأسيس الدعوة الجهادية في الأردن ليس بهدف مواجهة "العدو القريب" (النظام الأردني)، بل العدو البعيد (إسرائيل)، كما ذكر هو (في رسالته، الزرقاوي مناصرة ومناصحة، عام 2004). وعلى الرغم من أنّ الزرقاوي انضم إلى القاعدة (2004) وبايع أسامة بن لادن، إلّا أنّ هذه البيعة لم تُلغِ الخلافات بين الطرفين، فالزرقاوي كان يصرّ على قتال العدو القريب في العراق، وهم القوى الشيعية وإيران ونظام ما بعد صدّام حسين، بينما "القاعدة" كانت ترى، في تلك الفترة، عدم الصدام مع إيران، والإصرار على مقارعة العدو البعيد (الولايات المتحدة الأميركية).
من باب الاستطراد الضروري والتوضيح، ليست هذه نقطة الخلاف الوحيدة (وقد ذكرنا في
كتابنا "تنظيم الدولة الإسلامية" النقاط الجوهرية). ولكن حتى النقطة الثانية الأساسية، أنّ القاعدة لا ترى إقامة دولة إسلامية، وتكتفي بشوكة النكاية (حروب العصابات والكرّ والفر، والمواجهة المسلّحة)، بينما الزرقاوي كان يرى ضرورة إقامة دولة إسلامية (فأقام دولة العراق، فيما خلفاؤه دشّنوا ما سمّوه دولة الخلافة)، حتى هذه النقطة لا تبدو اليوم فاصلة جوهرياً بين "القاعدة" و"داعش" مع انهيار دولة الأخير، وعودتها إلى مشروع حرب العصابات.
إذن، وتلخيصا لما سبق، يكرّس هذا الخطاب عودة "خليفة داعش الجديد"، الملقب إبراهيم هاشمي القرشي، إلى فكرة أولوية قتال إسرائيل وأميركا، ما يعني، وفقاً للباحث في الحركات الجهادية، حسن أبو هنية، الانتقال إلى فكرة "دمج الأبعاد في القتال: ما بين العدو القريب والبعيد"، بمعنى أنّ الأولوية هي لقتال أميركا وإسرائيل (هنالك وفقاً لأيديولوجيا الجهاديين)، وفي الوقت نفسه الاهتمام بساحات القتال الداخلية.
على أرض الواقع، كيف ستتم ترجمة ذلك، مرّة أخرى، بعيداً عن القدرات الضعيفة لتنظيم داعش على إحداث تغييرٍ في مواجهة صفقة القرن؟ تأتي الأهمية الجوهرية من أنّه بذلك الإعلان يفتح الباب مشرعاً أمام مصالحةٍ داخل الجهاديين بين "القاعدة" و"داعش"، وربما هذه اللمسة الرئيسة التي أراد الخليفة الجديد وضعها، والتخلّص من الالتباس الجوهري بالأزمة السنّية في العراق، كما كانت عليه الحال منذ الزرقاوي، مروراً بأبو عمر البغدادي، وصولاً
إلى أبو بكر البغدادي، والتحالف المعروف بين قياداتٍ سابقةٍ في الجيش العراقي وتنظيم الزرقاوي، فمثل هذا الإعلان الجديد (عشية صفقة القرن) يؤذن بإمكاناتٍ جديدة، بعدما وصل "داعش" إلى نهايات مشروعه المفارق للقاعدة، خصوصا في مسألتي أولوية العدو البعيد والقريب، وإقامة دولة إسلامية!
هل باتت الوحدة مرّة أخرى بين التنظيمين وشيكة؟ ثمة شكّ كبير بالضرورة، فهنالك مياه كثيرة جرت تحت الأقدام، وخلافاتٌ في طبيعة البنية التنظيمية وتركيبة الأيديولوجيا، وعناصر التنشئة والتجنيد والقيادات.. إلخ. لكن ذلك قد يعني عودة تدريجية من قيادات "داعش" لردم الفجوة مع تنظيم القاعدة، وربما خروج رؤية أيديولوجية أو قيادة جديدة هجينة تعيد هندسة الأمور وترتيبها، وتستجيب، بصورة أكثر فعاليةً، للمتغيرات من القيادات الحالية.
كان يمكن القول إنّ هزيمة "داعش" هي هزيمة للمشروع الجهادوي (بصيغته القاعدية والداعشية)، لكن صفقة القرن، وسياسة ترامب، والسلطوية العربية، والفشل في إدماج جيل الشباب في العمل العام، جميعها بمثابة مفاتيح خطيرة لصعود الراديكالية التي تتخذ الصيغة الدينية حالياً (على حد تعبير الباحث الفرنسي أوليفيه روا بقوله بأسلمة الراديكالية)، فطالما أنّ طريق الإصلاح والتغيير والإدماج والشراكة مغلق، فإن هنالك تربة خصبة للتجنيد والدعاية للتنظيمات الجهادوية.
على الرغم من ذلك كله، تتوفر الرسالة على أهمية استراتيجية، إنْ كان حالياً على الصعيد الفكري فقط، فإنّه سيُترجم لاحقاً على مستوياتٍ مختلفةٍ واقعياً، وأهم تحوّل يحمله الخطاب الجديد أنّه ألغى حدوداً كبيرة وجداراً فاصلاً صلباً كان يقف بين إمكانية التحالف بين تنظيمي
هذه الخلافات الجوهرية (تناولتها في كتاب مفصّل مع الصديق حسن أبو هنية "تنظيم الدولة الإسلامية: الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية") تعود في الأصل إلى مؤسس تنظيم داعش، أبو مصعب الزرقاوي الأردني، الذي كان قد اختلف، قبل ذلك، مع شيخه الروحي، أبو محمد المقدسي، فبينما كان الأخير يقرّ أن تأسيس الدعوة الجهادية في الأردن ليس بهدف مواجهة "العدو القريب" (النظام الأردني)، بل العدو البعيد (إسرائيل)، كما ذكر هو (في رسالته، الزرقاوي مناصرة ومناصحة، عام 2004). وعلى الرغم من أنّ الزرقاوي انضم إلى القاعدة (2004) وبايع أسامة بن لادن، إلّا أنّ هذه البيعة لم تُلغِ الخلافات بين الطرفين، فالزرقاوي كان يصرّ على قتال العدو القريب في العراق، وهم القوى الشيعية وإيران ونظام ما بعد صدّام حسين، بينما "القاعدة" كانت ترى، في تلك الفترة، عدم الصدام مع إيران، والإصرار على مقارعة العدو البعيد (الولايات المتحدة الأميركية).
من باب الاستطراد الضروري والتوضيح، ليست هذه نقطة الخلاف الوحيدة (وقد ذكرنا في
إذن، وتلخيصا لما سبق، يكرّس هذا الخطاب عودة "خليفة داعش الجديد"، الملقب إبراهيم هاشمي القرشي، إلى فكرة أولوية قتال إسرائيل وأميركا، ما يعني، وفقاً للباحث في الحركات الجهادية، حسن أبو هنية، الانتقال إلى فكرة "دمج الأبعاد في القتال: ما بين العدو القريب والبعيد"، بمعنى أنّ الأولوية هي لقتال أميركا وإسرائيل (هنالك وفقاً لأيديولوجيا الجهاديين)، وفي الوقت نفسه الاهتمام بساحات القتال الداخلية.
على أرض الواقع، كيف ستتم ترجمة ذلك، مرّة أخرى، بعيداً عن القدرات الضعيفة لتنظيم داعش على إحداث تغييرٍ في مواجهة صفقة القرن؟ تأتي الأهمية الجوهرية من أنّه بذلك الإعلان يفتح الباب مشرعاً أمام مصالحةٍ داخل الجهاديين بين "القاعدة" و"داعش"، وربما هذه اللمسة الرئيسة التي أراد الخليفة الجديد وضعها، والتخلّص من الالتباس الجوهري بالأزمة السنّية في العراق، كما كانت عليه الحال منذ الزرقاوي، مروراً بأبو عمر البغدادي، وصولاً
هل باتت الوحدة مرّة أخرى بين التنظيمين وشيكة؟ ثمة شكّ كبير بالضرورة، فهنالك مياه كثيرة جرت تحت الأقدام، وخلافاتٌ في طبيعة البنية التنظيمية وتركيبة الأيديولوجيا، وعناصر التنشئة والتجنيد والقيادات.. إلخ. لكن ذلك قد يعني عودة تدريجية من قيادات "داعش" لردم الفجوة مع تنظيم القاعدة، وربما خروج رؤية أيديولوجية أو قيادة جديدة هجينة تعيد هندسة الأمور وترتيبها، وتستجيب، بصورة أكثر فعاليةً، للمتغيرات من القيادات الحالية.
كان يمكن القول إنّ هزيمة "داعش" هي هزيمة للمشروع الجهادوي (بصيغته القاعدية والداعشية)، لكن صفقة القرن، وسياسة ترامب، والسلطوية العربية، والفشل في إدماج جيل الشباب في العمل العام، جميعها بمثابة مفاتيح خطيرة لصعود الراديكالية التي تتخذ الصيغة الدينية حالياً (على حد تعبير الباحث الفرنسي أوليفيه روا بقوله بأسلمة الراديكالية)، فطالما أنّ طريق الإصلاح والتغيير والإدماج والشراكة مغلق، فإن هنالك تربة خصبة للتجنيد والدعاية للتنظيمات الجهادوية.