دعوة إلى السفر
صدقت مقولة الشاعر الذي قال:
إذَا ما ضَاقَ صدرُكَ من بــــــلادٍ ... ترحَّـــــلْ طالباً بلــــــداً سواهَــا
عجبتُ لمـــــنْ يُقــــــيمُ بأرضِ ذلٍّ... وأرضُ اللهِ واســــــعةٌ فضاهَــا!
مشينـــاهَا خُطىً كُتبتْ علينَــــا ... ومن كُتبتْ عليه خطىً مَشاهَا!
ومـــنْ كــــانتْ مَنيّتُــه بـــــأرضٍ ... فليسَ يمــوتُ في أرضٍ سواهَا!
ما أجلّها من أبيات شعر عَرف قائلها كيف يثير بها فينا نوازع خاصة، نوازع الغربة وما يصاحبها من ألم وحسرة وضيق حال، وهو يصف حالة الخطى التي أوصلتنا إلى بلاد قصية طالما كانت تسجّل حلماً بالنسبة لنا، وللكثير من جيلنا، ومن سبقهم، ومن الشباب الطموح الذي ظل يحلم، لمجرد حلم، بزيارة بلاد العم سام، وغيرها.
هذه الكلمات جزء من قصيدة جميلة يتداولها الناس من جميع فئاتهم لما تحمله من بساطة الألفاظ وعمق المعاني وبديع الإحكام في ضبط الكلمات، وقد قيل بناظمها الحقيقي الكثير من الأقوال التي تنسبها لأكثر من شاعر، ولكن القول الأنسب هو نسبتها لشاعر قديم كان اسمه عبد العزيز الدريني والذي كان شيخاً جليلاً وعالماً ومشهوراً بسرعة النظم، وقد كان له تفسير للقرآن الكريم، وكانت له كذلك مؤلفات وأشعار كثيرة وعديدة، ونجد أن القصيدة تتحدث عن القضاء والقدر والموت، وأن الأرض الواسعة الرحبة فيها الكثير من الفرص لكل إنسان، وتحثّ المرء على عدم الرضوخ لواقع الحال المشين، وتحثّه على السعي وراء حريته وتبديل حاله المزري إلى حال أفضل، وتخبره أنَّ الموت المكتوب على الإنسان هو ملازم للمكان الذي سيحدث فيه كما قدّره الله لا الإنسان، فسواء لازمت مكانك أو غادرته فأنّى كنتم (سيدرككم الموت حتى ولو كنتم في بروج مشيّدة).
وفي هذا المقام، أتذكر مقولة صديق طفولة، قضى أياماً طويلة في دراسة الطبّ في إحدى دول أميركا الجنوبية، بعد أن أجاد لغتها، وحاول، وبكل جهد مضن، بعد تخرجه من الجامعة أن يستقر في مدينة حلب الشهباء، إلّا أنَّ ظروفه القاهرة عادت به إلى لوعة الفراق، بغيابه مرة أخرى عن الأهل والأصدقاء، ما اضطرته ظروفه القاهرة للسفر إلى دول الخليج ليتمكن من شراء شقة سكنية في حي متواضع في مسقط رأسه، وهو يشغل الآن رئيساً لمركز طبّي هناك.
السفر مفتاح الحياة النبيلة، ويفتح أمام المرء آفاقاً غريبة، ويدفع به إلى أن يتعلم أشياء جديدة، وعبر ونماذج أخرى كانت مغلقة أبوابها أمامه، من خلال التجربة والانخراط فيها
هذا الصديق الطبيب، لطالما يردّد مقولة:
(اللي يُحبّه ربّه يُشوْفُه مُلكه)، وقد اتضح لي مع مرور الوقت أنَّ ما قاله صديقي المغترب في محله، وتجلى ذلك من خلال السفر، الذي هو في الواقع يُعد مدرسة في هذه الحياة التي نعيش أوارها المستعرة في كل وقت!
والسفر، كما يقال: "قطعة من النار"، وإن تعددت أوجهه، سواء أكان ذلك بداعي العمل أو السياحة، فهو يثير في النفس، برغم كل الظروف، وإن كانت ايجابية، مرارة الشوق واللوعة والفراق!! لوعة محب وعاشق ترك أهله وأصدقاءه وارتباطاته.
وإن كان هذا الأنموذج لايزال له بريقه بالنسبة لنا، نحن الذين جُبلنا على التغنّي بالأسفار والركض وراءها والتمجيد بها، وإن كانت فرصة لمن يريد الاستفادة منها في كثير من الأوجه، إلّا أنَّ ما يمكن أن نجنيه منها يحتاج إلى تركيز وصبر وأناة وحلم كبيرين، وفي النهاية سيكون الحصاد مثمراً، ولكن بقضاء أيام لا يمكن تصويرها ولا يمكن لها أن تعود. والعودة إليها دونها الكثير من الصعوبة، لأننا فقدناها.
وفي لحظة ما يفقد المرء إنسانا عزيزا، وهو في بلاد الغربة، وهذا الفقدان، وان كان مؤقتاً بعد أن جمعتهما الأيام، في عمل ما، أو علاقة توجت بلقاء ما، وإن كان قصيراً، وبعدها ترك أحدهما الآخر، فقد يكون لذلك أثره المباشر في تكوينه، وإن كانت الأيام شهدت على علاقتهما لفترة محدودة، ولكن الألفة والود والاحترام دفعت إلى التعلّق بذلك الصديق، تعلقاً كبيراً، إذا قسناه بعلاقته مع صديق طفولة قد لا توازيه محبّة هذا إلى ذاك، وهنا يكون الأنموذج، وإن كان مؤقتا إلّا أنّه أثمر صداقة مخلصة ووفية ومبهجة.
فالسفر مفتاح الحياة النبيلة، ويفتح أمام المرء آفاقاً غريبة، ويدفع به إلى أن يتعلم أشياء جديدة، وعبرا ونماذج أخرى كانت مغلقة أبوابها أمامه، من خلال التجربة والانخراط فيها، وهذا يؤدي إلى تفعيل دورنا في الحياة بدلاً من عدم الانفعال والتفاعل فيها.
كما لا ننسى، أنَّ هناك نماذج متعدّدة في هذا الإطار تناولت السفر، وأبعاده، ومحطاته والصعاب التي تواجه المرء، ومنها ما أورده الدكتور الأديب عبد السلام العجيلي، طيّب الله ثراه، عندما وصف لنا السفر في كتبه المنشورة، ومنها ما جاء في مجموعته القصصية: (دعوة إلى السفر)، و(حكايات من الرحلات)، وغير ذلك من الكتّاب والمشاهير العظام.
ويقول الإمام الشافعي في ذلك: تغرّب عن الأوطان في طلب العلا، وسافر ففي الأسفار خمس فوائد: (تفريج همٍّ، واكتساب معيشةٍ، و علمٍ، وآدابٍ، وصحبة ماجد).
وكل ما يهمنا أنَّ الخطى التي بدأناها لا تزال تخطو ( وليقضي اللهُ أمراً كانَ مفعولا وإلى الله ترجع الأمور). الأنفال، الآية ـ 44 ـ ما يعني يظل له نتائجه ومنحاه الذي رسمنا له طريقاً، وإن كانت خاسرة برأيي إلّا أنه تبقى لها نتائجها الايجابية على المدى البعيد، وإن طالت، سيبقى ما يبرر وثوقها.
...
*وفي باريس التي سبق أن زرتها قبل سنوات بعيدة، قادماً من الولايات المتحدة، وحللت في فندق قريب من شارع يعجّ بالحوانيت والمحال التجارية، المشتهرة بأسعارها النارية. في اليوم التالي لوصولي، اضطررت لشراء بعض الحاجيات الشخصية، إذ كانت حقيبة سفري قد تخلّفت وذهَبَتْ في اتجاه غير اتجاهي. ودخلت حانوتاً كبيراً تبضعتُ منه بعض ما يلزمني من أدوات حلاقة، وتصفيف الشعر.
كان البائع رجلاً عجوزاً في السبعين من عمره ونزقاً، لا يعرفُ الإنكليزية ولا أعرف الفرنسية، فكان لا بد من اللجوء إلى (الإنترناشيونال لا نغويج) ـ اللغة العالمية ـ وهي التحدث بالإشارة التي تُغني عن العبارة. حتى إذا حرّر لي الفاتورة، بلغت مائتي فرنك، لم يكن معي منها إلا مائة وتسعون فرنكاً. ورفض بالطبع أن يتناول المبلغ إلّا كاملاً غير منقوص ولو قرشا.
وعرضت عليه أن (يصرف) لي عشرة دولارات أو أكثر فقال: هذه ليست مهمّتي بل مهمّتك. أنا لا أفهم بأسعار العملات، وازداد نرفزة وحماقة، وانصرف عني بعد أن استعاد الأغراض مغضباً يتمتم تمتمات خافتة لعلها كانت شتائم من العيار الخفيف.
ذهبت إلى أحد البنوك القريبة في الشانزيليزيه الشهير، وهو أحد شوارع باريس، ومن أرقى وأفخم الشوارع السياحية والتجارية في العالم، وعدت ومعي عملة بني فرنسيس، ونقدت صاحبنا العجوز، العصبي، المبلغ كاملاً. واستعدت منه حاجياتي وكان قد أعادها إلى مواضعها، ومضيت عنه وأنا أعجب لهذه العقلية المتزمّتة في المعاملة والعصبية الظاهرة عند رجل على حافة قبره، وما أن قاربت فندقي حتى سمعت صوتاً يهتف بي أو بغيري: أو مسيو.. أو مسيو..!
تلفّت خلفي فإذا البائع العجوز يجري خلفي بكل ما وسعه الجري يلهث ويشير إليّ أن أقف. فوقفت وأنا أخمّن أنه سوف يستعيد ما اشتريته لأن الثمن ناقص.. وكم كانت المفاجأة مذهلة لي حتى كدت أقبل يديه، حين مد نحوي بمحفظتي وقد نسيتها على طرف طاولته وفيها كل مؤونة الرحلة من العملات الصعبة، وقال لي ما معناه بعصبية: يجب أن تأخذ بالك في المرة القادمة، فليس كل من في باريس (مضطراً) أن يكون أميناً.
وقلت له ما معناه: ولكنك -ياسيدي- هلكتني بفرنكاتك العشرة.
قال: هذا شيء وذاك شيء آخر.
وحينئذ أحببت فيه كل صفاته التي أنكرتها وعلى رأسها العصبية، ما دامت مغلّفة بالأمانة لا بورق السولفان!