أكدت المأساة السورية، بالملموس، قدرة العين على العماء التام، وقدرة اللسان، الفائقة، على الكذب. أما الضمير فبوسعه أن يأخذ إجازة طويلة، قد لا يعود منها. كما أكدت هذه المأساة التي تزداد تعقيداً وبُعداً عن نهاية سعيدة قريبة، أن لا شيء أكثر يتماً من الحقيقة في الصراعات. فمَنْ تهمّه الحقيقة إن كانت ستخرجه من دائرة الطمأنينة إلى دائرة القلق، ومن راحة الجواب إلى مشقَّة البحث والسؤال.
لهذا لم تغير مجازر دوما وكيماويات الغوطة، ولا التدمير، بالمتر المربع، لحمص، ولا سكاكين الحولة وبلطاتها، ولا ملحمة التشريد الكونية للشعب السوري في الداخل والخارج، مواقف الذين يغضّون الطرف عن الألم الإنساني في سبيل الشعار الكاذب، ويشيحون بوجوههم عن الجحيم الأرضي لملايين البشر لكي تبقى "الدوغما" العقائدية والمذهبية غير قابلة للهزّ أو المساءلة في أذهانهم.
أسباب عديدة للتدمير
تتوافر غوطة دمشق، ودوما في طليعتها، على أكثر من سبب لحقد النظام ومليشياته عليها. فهي التي نقلت الحراك الثوري، في مستهل الثورة، إلى قلب سورية بعدما كان على أطرافها، واحتضنته إلى يومنا هذا.
ففي الأسبوع الثاني لانطلاق شرارة الثورة السورية ضد طغيان نظام الأسد، قامت دوما بتقديم دعمٍ، غالي الثمن، لانتفاضة الدرعاويين، من خلال اعتصامها الشهير الذي صار محجّاً للشبان السوريين الراغبين في الانتفاض في قلب العاصمة، ولكنهم لم يكونوا قادرين على فعل ذلك، بسبب كثافة الانتشار الأمني في وسط دمشق وأحيائها.
اقرأ أيضاً: عن أصدقائي في ذاكرة دوما الجريحة
إلى دوما راحت تتقاطر خطى الشبان الذين أشعلوا، لاحقاً، الانتفاضة في العاصمة، وتعرضوا للرصاص الحي، إذ ليس لدى نظام بشار الأسد، كما هو معروف، أدوات لمكافحة "الشغب"، التي تستخدمها دول عربية ديكتاتورية أخرى (مثلما فعل نظام حسني مبارك مثلا) ولا ضرورة لها، ما دامت الدبابة متوفرة بكثرة، وهي أصلاً عاطلة عن العمل على جبهة "الممانعة" مع "العدو".
لم يكن جديداً على غوطة دمشق أن تكون مهداً للثورة على الاحتلال والظلم، فهذا في صلب تاريخها. فقد سطَّرت صفحات مشرّفة في قتالها ضد الاحتلال الفرنسي أيام الثورة السورية الكبرى، وكانت، بسبب طبيعتها الجغرافية وشهامة أهلها، ملجأ آمناً للثوار السوريين على المحتلين الأجانب. وها هي تفعل الأمر ذاته في مواجهة احتلال داخلي يتكلم اللغة العربية بطلاقة، وينتسب إلى آل البيت، إن لزم الأمر.
ولو لم يكن حكم الأسد احتلالاً، أسوأ من الاحتلال الأجنبي، لما ضرب مدن الغوطة وبلداتها بالصواريخ الفراغية، السكود، النابالم، القنابل العنقودية، الغازات السامة، البراميل المتفجرة. وهذا الاختراع الإجرامي، الأخير، تفتَّق عنه عقل النظام السوري الأمني، في العام الثاني للثورة، واستهل به انحداره الوطني والأخلاقي في حمص، ثم صار سلاحاً أثيراً لقوات النخبة في جيش بشار لسهولة صنعه وضآلة تكلفته على ميزانيته الحربية، فضلاً عن قدرته التدميرية الهائلة.
اقرأ أيضاً: "دوما" تتحدى الموت بالغناء
يعرف النظام كم تكرهه دوما، لذلك يرفع فاتورة الدم، ولا يفكِّر في الحساب. فهو يعرف أنه محمي من دولتين عظميين في مجلس الأمن، ويقع تحت الوصاية المباشرة لولاية الفقيه التي تستميت في الدفاع عنه، لأنها بذلك تدفع عن نفسها ارتدادات شرورها وشرور حلفائها في الخارج.
جنة من أربع
منذ وقت طويل، قضى نظام الأسد على وصف دمشق الذي يطالع المرء في كتب التاريخ ومدونات الرحالة والجغرافيين العرب القدامى. صارت المدينة المحاطة بأخضر الغوطة وهوائها العليل، عاصمة للعشوائيات "الاشتراكية" والاكتظاظ البشري الفالت من أي تخطيط، وعوادم السيارات والسوزوكيات (تساوي: التوك توك في الحالة المصرية). دمَّر الإسمنت أطراف العاصمة، حيث الريف الدمشقي الذي استحق القصائد والغناء، وراح يزحف على العاصمة، بالعسكر و"الكولبات" والحديد المسلَّح، حتى وصل إلى قلبها.
اقرأ أيضاً: كتّاب لا يموتون
فلم يبق شيء مما قاله البحتري في عاصمة بني أمية:
أما دمشق فقد أبدت محاسنها
وقد وفى لك مُطْريها بما وعدا
إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ
مستحسنٍ وزمانٍ يُشبِه البلدا
يمسي السحابُ على أجبالها فرقاً
ويصبح النبتُ في صحرائها بددا
فلست تبصر إلاَّ واكفاً خَضِلاً
أو يانعاً خَضِراً أو طائراً غَرِدا
كأنما القيظُ ولى بعد جيئته
أو الربيعُ دنا من بعد ما بعدا".
يبالغ الشعر العربي في الوصف، هذا هو دأب الشعر، خصوصاً شعرنا القديم الذي كان الوصف أحد أهم أغراضه الشائعة، كذلك يفعل الجغرافيون ومدبّجو الإخباريات، ولكن يظل مبعث مبالغتهم شدة وقع جمال، أو رِقَّة، أو عظمة الموصوف بالقياس، طبعاً، إلى ما عرفوه وألفوه. فعلى أي قائمة مدنٍ توضع دمشق التي دمَّرها نظام البعث، بيئياً، وأجهز عليها مادياً وعمرانياً بصواريخه وبراميله وعسكره المغولي الذي لم يدخره لعدو خارجي كما يتبين الآن؟
اقرأ أيضاً: "زيوا" التركية.. توثيق مجازر الأرمن رداً على مجازر ضدهم
مِنْ قبلُ وضعها الخوارزمي في قائمة جمالية تضم أربعة مواضع، فقط، في العالم، فقال: "جنان الدنيا أربع، غوطة دمشق، صفد سمرقند، وشعب بوان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها، وأفضلها دمشق".
الريف المقاتل
يعطي السوريون أسباباً عديدة لانفراد ريف دمشق بهذه الصلابة في مواجهة جيش بشار الأسد ومليشياته الطائفية، منها ما يُقبل، ومنها ما يصعب قبوله. لكنَّ الشائع بين هذه الاجتهادات هو التماسك الاجتماعي لأهل هذا الريف، واستعصاؤه على الاختراق الاجتماعي القادم من جغرافيات سورية أخرى، أو حتى من خارج سورية، رغم أن هذا الأمر لا يصمد أمام واقع يقول إن "دوما"، بل و"حرستا" عرفتا هجرة من داخل دمشق، ومن القادمين إلى دمشق من أرياف وبواد سورية بعيدة.
ويبدو أنه بسبب كثرة "الغربتليه" في العاصمة، على ما يقول الشوام المتعصبون لجوهرتهم وتاج المدن، هجرت عائلات كثيرة، على مدى عقود، أحياءها وحواريها وسكنت في الريف المحيط بالمدينة. لذلك يعتبر معظم سكان ريف دمشق، أصلاً، من أهالي الشام نفسها الذين غادروها، لأسباب اجتماعية واقتصادية.
مدينة منكوبة
تأخرت بعض القوى الأهلية السورية في إعلان دوما مدينة منكوبة، إذ كان ينبغي فعل ذلك منذ أمد طويل. فالمدينة التي كانت تضم نحو 400 ألف نسمة قبل حرب بشار الأسد على "شعبه" تعاني من حصار خانق يزيده صعوبة قصف قوات النظام ومليشياته المدينة بلا هوادة. وفي هذا الصدد أعلن المجلس المحلي للمدينة في بيان له أن "دوما، في ريف دمشق، مدينة منكوبة، وفق كامل المعايير الدولية والإنسانية والأممية".
اقرأ أيضاً: "ملبورن" الأسترالية: أفضل مدينة للعيش في العالم... ودمشق الأسوأ
ووثق البيان وقائع المجزرتين اللتين عرفتهما المدينة المحاصرة في 12 و16 من الشهر الجاري، وأوقعتا ما لا يقلُّ عن 150 شهيداً وما لا يقل عن 700 جريح، فضلاً عن عدد غير معروف من المفقودين. وطالب بيان المجلس المحلي للمدينة المنكوبة "المجتمع الدولي، الأمم المتحدة، مجلس الأمن الدولي، المنظمات الإغاثية والإنسانية كافة، باتخاذ إجراءات وقرارات كفيلة بالضغط على النظام السوري لوقف قصفه، وهجماته ضد المدنيين".
لهذا لم تغير مجازر دوما وكيماويات الغوطة، ولا التدمير، بالمتر المربع، لحمص، ولا سكاكين الحولة وبلطاتها، ولا ملحمة التشريد الكونية للشعب السوري في الداخل والخارج، مواقف الذين يغضّون الطرف عن الألم الإنساني في سبيل الشعار الكاذب، ويشيحون بوجوههم عن الجحيم الأرضي لملايين البشر لكي تبقى "الدوغما" العقائدية والمذهبية غير قابلة للهزّ أو المساءلة في أذهانهم.
أسباب عديدة للتدمير
تتوافر غوطة دمشق، ودوما في طليعتها، على أكثر من سبب لحقد النظام ومليشياته عليها. فهي التي نقلت الحراك الثوري، في مستهل الثورة، إلى قلب سورية بعدما كان على أطرافها، واحتضنته إلى يومنا هذا.
ففي الأسبوع الثاني لانطلاق شرارة الثورة السورية ضد طغيان نظام الأسد، قامت دوما بتقديم دعمٍ، غالي الثمن، لانتفاضة الدرعاويين، من خلال اعتصامها الشهير الذي صار محجّاً للشبان السوريين الراغبين في الانتفاض في قلب العاصمة، ولكنهم لم يكونوا قادرين على فعل ذلك، بسبب كثافة الانتشار الأمني في وسط دمشق وأحيائها.
اقرأ أيضاً: عن أصدقائي في ذاكرة دوما الجريحة
إلى دوما راحت تتقاطر خطى الشبان الذين أشعلوا، لاحقاً، الانتفاضة في العاصمة، وتعرضوا للرصاص الحي، إذ ليس لدى نظام بشار الأسد، كما هو معروف، أدوات لمكافحة "الشغب"، التي تستخدمها دول عربية ديكتاتورية أخرى (مثلما فعل نظام حسني مبارك مثلا) ولا ضرورة لها، ما دامت الدبابة متوفرة بكثرة، وهي أصلاً عاطلة عن العمل على جبهة "الممانعة" مع "العدو".
لم يكن جديداً على غوطة دمشق أن تكون مهداً للثورة على الاحتلال والظلم، فهذا في صلب تاريخها. فقد سطَّرت صفحات مشرّفة في قتالها ضد الاحتلال الفرنسي أيام الثورة السورية الكبرى، وكانت، بسبب طبيعتها الجغرافية وشهامة أهلها، ملجأ آمناً للثوار السوريين على المحتلين الأجانب. وها هي تفعل الأمر ذاته في مواجهة احتلال داخلي يتكلم اللغة العربية بطلاقة، وينتسب إلى آل البيت، إن لزم الأمر.
ولو لم يكن حكم الأسد احتلالاً، أسوأ من الاحتلال الأجنبي، لما ضرب مدن الغوطة وبلداتها بالصواريخ الفراغية، السكود، النابالم، القنابل العنقودية، الغازات السامة، البراميل المتفجرة. وهذا الاختراع الإجرامي، الأخير، تفتَّق عنه عقل النظام السوري الأمني، في العام الثاني للثورة، واستهل به انحداره الوطني والأخلاقي في حمص، ثم صار سلاحاً أثيراً لقوات النخبة في جيش بشار لسهولة صنعه وضآلة تكلفته على ميزانيته الحربية، فضلاً عن قدرته التدميرية الهائلة.
اقرأ أيضاً: "دوما" تتحدى الموت بالغناء
يعرف النظام كم تكرهه دوما، لذلك يرفع فاتورة الدم، ولا يفكِّر في الحساب. فهو يعرف أنه محمي من دولتين عظميين في مجلس الأمن، ويقع تحت الوصاية المباشرة لولاية الفقيه التي تستميت في الدفاع عنه، لأنها بذلك تدفع عن نفسها ارتدادات شرورها وشرور حلفائها في الخارج.
جنة من أربع
منذ وقت طويل، قضى نظام الأسد على وصف دمشق الذي يطالع المرء في كتب التاريخ ومدونات الرحالة والجغرافيين العرب القدامى. صارت المدينة المحاطة بأخضر الغوطة وهوائها العليل، عاصمة للعشوائيات "الاشتراكية" والاكتظاظ البشري الفالت من أي تخطيط، وعوادم السيارات والسوزوكيات (تساوي: التوك توك في الحالة المصرية). دمَّر الإسمنت أطراف العاصمة، حيث الريف الدمشقي الذي استحق القصائد والغناء، وراح يزحف على العاصمة، بالعسكر و"الكولبات" والحديد المسلَّح، حتى وصل إلى قلبها.
اقرأ أيضاً: كتّاب لا يموتون
فلم يبق شيء مما قاله البحتري في عاصمة بني أمية:
أما دمشق فقد أبدت محاسنها
وقد وفى لك مُطْريها بما وعدا
إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ
مستحسنٍ وزمانٍ يُشبِه البلدا
يمسي السحابُ على أجبالها فرقاً
ويصبح النبتُ في صحرائها بددا
فلست تبصر إلاَّ واكفاً خَضِلاً
أو يانعاً خَضِراً أو طائراً غَرِدا
كأنما القيظُ ولى بعد جيئته
أو الربيعُ دنا من بعد ما بعدا".
يبالغ الشعر العربي في الوصف، هذا هو دأب الشعر، خصوصاً شعرنا القديم الذي كان الوصف أحد أهم أغراضه الشائعة، كذلك يفعل الجغرافيون ومدبّجو الإخباريات، ولكن يظل مبعث مبالغتهم شدة وقع جمال، أو رِقَّة، أو عظمة الموصوف بالقياس، طبعاً، إلى ما عرفوه وألفوه. فعلى أي قائمة مدنٍ توضع دمشق التي دمَّرها نظام البعث، بيئياً، وأجهز عليها مادياً وعمرانياً بصواريخه وبراميله وعسكره المغولي الذي لم يدخره لعدو خارجي كما يتبين الآن؟
اقرأ أيضاً: "زيوا" التركية.. توثيق مجازر الأرمن رداً على مجازر ضدهم
مِنْ قبلُ وضعها الخوارزمي في قائمة جمالية تضم أربعة مواضع، فقط، في العالم، فقال: "جنان الدنيا أربع، غوطة دمشق، صفد سمرقند، وشعب بوان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها، وأفضلها دمشق".
الريف المقاتل
يعطي السوريون أسباباً عديدة لانفراد ريف دمشق بهذه الصلابة في مواجهة جيش بشار الأسد ومليشياته الطائفية، منها ما يُقبل، ومنها ما يصعب قبوله. لكنَّ الشائع بين هذه الاجتهادات هو التماسك الاجتماعي لأهل هذا الريف، واستعصاؤه على الاختراق الاجتماعي القادم من جغرافيات سورية أخرى، أو حتى من خارج سورية، رغم أن هذا الأمر لا يصمد أمام واقع يقول إن "دوما"، بل و"حرستا" عرفتا هجرة من داخل دمشق، ومن القادمين إلى دمشق من أرياف وبواد سورية بعيدة.
ويبدو أنه بسبب كثرة "الغربتليه" في العاصمة، على ما يقول الشوام المتعصبون لجوهرتهم وتاج المدن، هجرت عائلات كثيرة، على مدى عقود، أحياءها وحواريها وسكنت في الريف المحيط بالمدينة. لذلك يعتبر معظم سكان ريف دمشق، أصلاً، من أهالي الشام نفسها الذين غادروها، لأسباب اجتماعية واقتصادية.
مدينة منكوبة
تأخرت بعض القوى الأهلية السورية في إعلان دوما مدينة منكوبة، إذ كان ينبغي فعل ذلك منذ أمد طويل. فالمدينة التي كانت تضم نحو 400 ألف نسمة قبل حرب بشار الأسد على "شعبه" تعاني من حصار خانق يزيده صعوبة قصف قوات النظام ومليشياته المدينة بلا هوادة. وفي هذا الصدد أعلن المجلس المحلي للمدينة في بيان له أن "دوما، في ريف دمشق، مدينة منكوبة، وفق كامل المعايير الدولية والإنسانية والأممية".
اقرأ أيضاً: "ملبورن" الأسترالية: أفضل مدينة للعيش في العالم... ودمشق الأسوأ
ووثق البيان وقائع المجزرتين اللتين عرفتهما المدينة المحاصرة في 12 و16 من الشهر الجاري، وأوقعتا ما لا يقلُّ عن 150 شهيداً وما لا يقل عن 700 جريح، فضلاً عن عدد غير معروف من المفقودين. وطالب بيان المجلس المحلي للمدينة المنكوبة "المجتمع الدولي، الأمم المتحدة، مجلس الأمن الدولي، المنظمات الإغاثية والإنسانية كافة، باتخاذ إجراءات وقرارات كفيلة بالضغط على النظام السوري لوقف قصفه، وهجماته ضد المدنيين".