وكان تنظيم "داعش" قد انتزع السيطرة على أحياء داخل مدينة دير الزور في أواخر عام 2014 ، كانت بحوزة فصائل المعارضة السورية المسلّحة، إثر هجوم شنّه في أواسط ذاك العام، بدأ من شرق المحافظة، حيث مدينة البوكمال على الحدود مع العراق، مروراً بالميادين، أكبر مدن ريف المحافظة التي باتت جميعها تحت سيطرة التنظيم، باستثناء المطار العسكري وعدة أحياء في المدينة، لاتزال تحت سيطرة قوات النظام. منها أحياء: الجورة، القصور، هرابش، والتي تضم نحو 150 ألف مدني، فيما تضم الأحياء، التي تقع تحت سيطرة التنظيم نحو 15 ألف مدني.
تعدّ محافظة دير الزور من أكبر المحافظات السورية لجهة المساحة، وتضم حقول النفط الرئيسية الكبرى في سورية من حيث كمية الإنتاج، فضلاً عن كونها محافظة زراعية بامتياز؛ إذ يمرّ في جغرافيتها نهر الفرات، الذي أقامت عليه فرنسا إبان احتلالها لسورية في العشرينيات من القرن الماضي، جسراً معلقاً كان يعدً أيقونة هذه المدينة قبل أن يدمره طيران النظام في منتصف عام 2013 ويخرجه عن الخدمة.
اقرأ ايضاً: تفاهمات سريّة بين الأسد و"داعش" لتوليد الكهرباء
يصف الناشط الإعلامي محمد الخليف الوضع داخل دير الزور بالمأسوي، ويضيف في حديث مع "العربي الجديد": انعدمت كل وسائل الحياة داخل المدينة، حيث ندرة وغلاء الأغذية والأدوية، ووسائل التدفئة في فصل الشتاء، وتخلّف التعليم، فاضطر عدد كبير من أبناء المدينة التي كانت تضم نحو 700 ألف نسمة إلى هجرها داخل وخارج سورية، ومن بقي منهم يعانون جراء صراع النظام وتنظيم "داعش".
وأشار الخليف إلى أن النظام لا يسمح لأحد في الأحياء التي يسيطر عليها بالخروج منها إلا مقابل دفع رشى تصل لأرقام خيالية ليس بمقدور المدنيين دفعها، موضحاً أن التنظيم لا يستقبل أحداً من مناطق النظام إلا بعد تحقيق، ومن ثم الخضوع لـ "دورة شرعية يقر مدتها أربعين يوما".
ومن داخل المدينة المحاصرة يؤكد أحد الناشطين (فضّل عدم الكشف عن اسمه) أن ما يراه العالم عن مأساة أهل مضايا يعاني منه أهل مدينة دير الزور منذ أشهر دون اهتمام إعلامي يُذكر، مضيفاً أن "الناس هنا تكاد تصل إلى حدود المجاعة الحقيقية". وأشار إلى أن النظام يمارس سياسة إذلال ممنهج، بحيث يبيع الطعام بأسعار مرتفعة، ولا يسمح للمدنيين بالمغادرة جوا إلى العاصمة دمشق، إلا بعد دفع أموال لم يعد أحد قادراً على دفعها، كما لا يسمح إلا نادرًا بالخروج إلى المناطق التي يسيطر عليها تنظيم "داعش".
اقرأ أيضاً: تقرير: القصف الروسي يستهدف المدنيين والبنى التحتية بدير الزور
وقالت الحكومة السورية المؤقتة من مقرّها في مدينة غازي عين تاب جنوب تركيا، إن المحاصرين في مدينة دير الزور "يعانون ظروفاً يندى لها جبين الإنسانية؛ إذ لا تتوفر الكهرباء منذ أكثر من تسعة أشهر، وتنعدم الخدمات الصحية التي ينوء بحمل عبئها مستشفى واحد بإمكانيات متواضعة، مشيرة في بيان إلى أن الأفران توقفت عن تقديم مادة الخبز ما عدا واحداً منها لا يكفي لتزويد المحاصرين بالحد الأدنى الكافي للاستمرار في الحياة بعدما أوقف النظام تزويد هذه الأفران بالوقود"، وفق البيان.
وأشارت الحكومة إلى أن عشرات المحاصرين من أطفال وشيوخ ونساء قضوا نحبهم نتيجة الحصار، مؤكدة أن النظام الذي وصفته بـ"العصابة المجرمة" يفرض على من يريد الخروج مبالغ طائلة تصل إلى مليون ليرة لمن يريد الخروج جواً، ونصف مليون ليرة لمن يرغب بالخروج براً.
من جانبه، يقول الكاتب والمعارض ماهر سليمان العيسى (وهو من أبناء المدينة)، إن "دير الزور تعاني من حصار مركب يتشارك في فرضه على البسطاء وحشان يتنافسان لوحدهما في مستوى الانحطاط الذي لا يجاريهما فيه أحد"، في إشارة إلى النظام والتنظيم. وأضاف في حديث مع "العربي الجديد": لا يعنيهما أي معيار للحقوق، أو للتمدن، أو للوطنية، أو حتى للإنسانية. وكل منهما يحتمي بلحم البسطاء الذين يحتجزهم لديه، بدليل أن كلاً منهما لا يسمح لمن يريد أن يغادر المدينة إلا بالرشى والواسطات والإذلال، ويصل الأمر إلى أن يتنازل المرء عن كل ما يملك، ليخرج وعائلته من أتون هذه المحرقة، أو ليحصل مثلاً على معونة طبية نتيجة إصابة أحد هذين الطرفين تسبب بها".
ويخلص العيسى إلى القول إنه "هولوكوست معاصر ينفذ على مهل في الظل من الصراع في سورية، ينفذه أوغاد هذا الزمان ممن لا يرون في البشر سوى دريئة صد يحتمون خلفها".
وتعاني مدينة دير الزور التي تعرض غالبية أحيائها للتدمير بقصف طيران النظام، ومن بعده الطيران الروسي، من إهمال إعلامي لمأساة أبنائها، إذ يمنع النظام والتنظيم العمل الإعلامي، باستثناء ما يسربه ناشطون من معلومات وصور، دفع بعضهم حياته جراء ذلك.
وفي هذا الصدد، يقول العيسى: "لقد كان للإهمال الإعلامي الغريب والمريب في آن أثر سلبي في الاستفراد بهؤلاء البسطاء من قبل هذين الغولين المتوحشين (نظام الشبيحة وداعش)، فجرى التعتيم على كل ما يجري هناك حتى على أبناء المنطقة المغتربين، وكأن العالم استسلم إلى أن هذه المدينة وتلك المنطقة عموماً مقرّ ومستقرّ معترف به ومرضي عنه لهذه القسمة بين هذين الطرفين اللذين لا يتواجهان إلا نادراً، ولهذا يلقى كل منهما الوقت الكافي لإذلال من يحتجز عنده من رهائن بسطاء". ويضيف: "ترك ما يربو عن 180 ألف مواطن لمصيرهم دون حتى ذكر لمعاناتهم وما يلقون، فقط لأنهم بقوا في أرضهم، أو حتى عجزوا عن الهرب منها حين هرب الهاربون".