كثيرًا ما سعى هذا الفنان أو ذاك إلى استعادة مفكر أو علم من أعلام الحضارة العربية، كالإدريسي (فريد بلكاهية)، أو المتنبي (ضياء العزاوي)، أو غيرهما. لكن قلَّما نسمع عن اشتغال فنان على متصوّف كابن عربي. لا لأن التصوف عصيٌّ على التأويل والامتلاك فقط، ولكن لأنه الأكثر تجريدًا حين يكون تأملًا وجوديًا، والأكثر تشخيصًا حين يتحوّل إلى تصوف شعبي مليء بالحكايات والخرافات والأرواح والتمثّلات.
صحيح أن المستشرقين تابعوا مسير الحلاج والرومي وابن عربي، من ماسينيون إلى هنري كوربان، بيْد أن هذا الاهتمام يأتي في سياق مزدوج: لضرورات البحث وأحيانًا تفكيك المركزية الثقافية الغربية من جهة، وأحيانًا أخرى لضرورات ذاتية مرتبطة بحاجات روحية شخصية. المفارقة أن المستشرقين المفكرين راحوا مباشرة إلى عمق الفكر العربي الإسلامي، أما الاستشراقيون الفنانون فراحوا إلى مظهرية الكيان الإسلامي، وبالأخص إلى جوانبه الأكثر غموضا وإثارة.
اقرأ أيضًا: الأعمى والصورة
حين اكتشفت أعمال الفنان الإسباني الأندلسي دييغو مويا Diego Moya، من أكثر من عقد من الزمن، وجدته طافحًا بحسّ متوسطي قَلَّ أن نجدَه عند غيره، لا بأعماله فقط ولكن بالأخص بأبحاثه التي تنحو إلى البحث الجينيالوجي العميق في ما يصل شمال المتوسط بجنوبه.
دييغو مويا (1943)، من الفنانين الإسبان القلائل الذين يعرفون جنوب المتوسط. حبّه للعالم العربي ولحضارته العربية جعله يقوم بالعديد من المبادرات التي تجمع بين فنانين من الشمال وآخرين من الجنوب في لعبة "مرآوية".
كان دييغو مويا يشتغل على الفضاء اللازوردي، كما لو أنه يسعى من خلاله إلى استكناه زرقة الكون الأبدية. تتخلل تلك المساحات الزرقاء تشجيرات من نار ونور. يتلاعب بالمواد المحلية والأصباغ التي لا علاقة لها إلا بالجنوب الذي يعشق. دييغو مويا ليس مستشرقًا مستغْرِبًا في استشراقه، رغم طابعه العقلاني المنظّم الذي لا يني يذكّرنا بأصوله الشمالية. في اللوحة يفقد هذا الغربي عذريته كلّ مرة، ويغدو مالكًا لهذا المشرق الذي يسكنه.
اقرأ أيضًا: المشغل مغارة الإبداع الخصبة
لعل ابن عربي، أكثر بكثير من السهروردي "المقتول"، أكثر المتصوفة مرجعية للتصوف الإسلامي. ولعله صار بفضل هنري كوربان، متصوف الإسلام عمومًا. المتصوفة هم الكائنات الفكرية الروحانية التي تخترق لا الأزمنة فقط ولا الأمكنة معها، وإنما أساسًا المذهبيات.
لم يتسلّح دييغو مويا بالكثير من الجهد والتفكير ليقترب من أحد أكبر الشخصيات الفكرية في العالم الإسلامي التي تربط بين مشرقه ومغربه. كان عليه فقط أن يعود إلى جذوره الغائرة في الأندلس كي يستكشف مفهوم الجذور نفسها، تلك التي سوف يستخدمها بشكل مزدوج في أعماله: إما عموديًا كتوريقات نور أو باعتبارها تجذُّرات للذاكرة والتاريخ والمخفي والمسكوت عنه.
وفي حوار معه، قال مويا إنه يعتبر أن الوقت قد حان لإعادة النظر في تصوّر إدوارد سعيد للاستشراق المبني على إدانة نظرته، ليخلص إلى أن "العالم المعاصر قادر على أن يعتبر الآخر كجزء من ذاته". لن ننتبه أكثر من اللازم للطابع الرومانسي لهذا الاعتبار، غير أن ما يهمنا بالضبط هنا، هو ما تؤدّي إليه هذه الخلاصة الحسية من انبهار بمسألة النور من حيث هي المدخل للشرق.
اقرأ أيضًا: لؤي كيالي فنان عاش مرتين ومات مرتين
الأندلس غرب الغرب. ومن هذا المكان الذي كان فيه الشيخ الأكبر علمًا من أعلام الفكر العربي، وقاضيًا لا يُشقّ له غبار، سعى الفنان الأندلسي إلى اقتفاء آثار شيخ التصوف، إلى فاس ومنها إلى دمشق. إنها متابعة تجعل من التشكيل فنَّ قِيافةٍ أيضًا، أي اهتداء إلى أصول لن تكتب نفسها بلغة ابن عربي اللعوب والشفافة، التي تُراقص المعاني، وتتنفَّس غناها وإشراقاتها.
الحقيقة أن هذا الانتقال من اللغوي إلى البصري يجد أصله أيضًا في فكر ابن عربي نفسه، الذي يعتبر أن ثمة برْزخًا بين الحق والخلق، أي بين الألوهي والدنيوي البشري، هو عالم الصور. هذا العالم هو عالم الخيال الذي يجعل الألوهي يعيش قوة حضوره وانحجابه في مخلوقاته. عالم الصور هذا أيضًا هو عالم المرآة التي فيها تولدُ الصور وتتشكّل. إنه الفاصل الواصل بين الوجود الحسي والوجود الغيبي، ثمةَ حيث يغدو للكائنات النورانية من ملائكة وغيرها حق التصوُّر والتشكّل والتجسُّد. ثمة أيضا حيث يصير الألوهي محسوسًا فيؤنَّثُ وتصير له أسماء نسوةٍ كالنظام وزينب وغيرهما. إن عالم الصور كما يبنيه ابن عربي هو ما يمكّن من تقريب الحسي والمعقول. هو ذلك البيْن بيْن الذي يحطم كل الثنائيات الممكنة. إنه مجال الانتقال والتسامي والصعود والنزول، والقناة التي تجعل كل شيء ذا مظهرين: مرئي ولامرئي.
هنا بالضبط يدعونا الشيخ الأكبر إلى مقاربته ومقاربة عوالمه بالكثير من الحرية والمنظورية perspectivism، تلك التي مارسها هو نفْسُهُ في تملّك الكون وخالقه. أعني أن المقاربة الحسية تكون بحاجة إلى أنوار المقاربة العرفانية، وهي لا تستقيم إلا بالمزاوجة بين التنزيه والتشبيه.
وإذا كانت مقاربة مويا مقاربة نورانية، فذلك لأنه يعتبر أن تجربة التصوف لدى ابن عربي، تجربة التسامي. من ثم كان اختياره لسند خصوصي يتمثَّل في صفائح الألمنيوم، التي تترجم بشكل أو بآخر مفهوم المرآة المركزي لدى ابن عربي. أما الجوانب الحسية فقد تجلّت لديه في الاشتغال على مواد ترابية وخامات تخلق المفارقة والمواصلة بين السماوي والأرضي، وبين الحسي والروحاني. وبذلك تكون هذه المتابعة لابن عربي أشبه بالسيرة الروحانية والبصريّة التي تعيد دفين دمشْق هذا إلى الأندلس بعد أن تركها سعيًا إلى أنوار الشرق.
اقرأ أيضًا: الأعمى والصورة
حين اكتشفت أعمال الفنان الإسباني الأندلسي دييغو مويا Diego Moya، من أكثر من عقد من الزمن، وجدته طافحًا بحسّ متوسطي قَلَّ أن نجدَه عند غيره، لا بأعماله فقط ولكن بالأخص بأبحاثه التي تنحو إلى البحث الجينيالوجي العميق في ما يصل شمال المتوسط بجنوبه.
دييغو مويا (1943)، من الفنانين الإسبان القلائل الذين يعرفون جنوب المتوسط. حبّه للعالم العربي ولحضارته العربية جعله يقوم بالعديد من المبادرات التي تجمع بين فنانين من الشمال وآخرين من الجنوب في لعبة "مرآوية".
كان دييغو مويا يشتغل على الفضاء اللازوردي، كما لو أنه يسعى من خلاله إلى استكناه زرقة الكون الأبدية. تتخلل تلك المساحات الزرقاء تشجيرات من نار ونور. يتلاعب بالمواد المحلية والأصباغ التي لا علاقة لها إلا بالجنوب الذي يعشق. دييغو مويا ليس مستشرقًا مستغْرِبًا في استشراقه، رغم طابعه العقلاني المنظّم الذي لا يني يذكّرنا بأصوله الشمالية. في اللوحة يفقد هذا الغربي عذريته كلّ مرة، ويغدو مالكًا لهذا المشرق الذي يسكنه.
اقرأ أيضًا: المشغل مغارة الإبداع الخصبة
لعل ابن عربي، أكثر بكثير من السهروردي "المقتول"، أكثر المتصوفة مرجعية للتصوف الإسلامي. ولعله صار بفضل هنري كوربان، متصوف الإسلام عمومًا. المتصوفة هم الكائنات الفكرية الروحانية التي تخترق لا الأزمنة فقط ولا الأمكنة معها، وإنما أساسًا المذهبيات.
لم يتسلّح دييغو مويا بالكثير من الجهد والتفكير ليقترب من أحد أكبر الشخصيات الفكرية في العالم الإسلامي التي تربط بين مشرقه ومغربه. كان عليه فقط أن يعود إلى جذوره الغائرة في الأندلس كي يستكشف مفهوم الجذور نفسها، تلك التي سوف يستخدمها بشكل مزدوج في أعماله: إما عموديًا كتوريقات نور أو باعتبارها تجذُّرات للذاكرة والتاريخ والمخفي والمسكوت عنه.
وفي حوار معه، قال مويا إنه يعتبر أن الوقت قد حان لإعادة النظر في تصوّر إدوارد سعيد للاستشراق المبني على إدانة نظرته، ليخلص إلى أن "العالم المعاصر قادر على أن يعتبر الآخر كجزء من ذاته". لن ننتبه أكثر من اللازم للطابع الرومانسي لهذا الاعتبار، غير أن ما يهمنا بالضبط هنا، هو ما تؤدّي إليه هذه الخلاصة الحسية من انبهار بمسألة النور من حيث هي المدخل للشرق.
اقرأ أيضًا: لؤي كيالي فنان عاش مرتين ومات مرتين
الأندلس غرب الغرب. ومن هذا المكان الذي كان فيه الشيخ الأكبر علمًا من أعلام الفكر العربي، وقاضيًا لا يُشقّ له غبار، سعى الفنان الأندلسي إلى اقتفاء آثار شيخ التصوف، إلى فاس ومنها إلى دمشق. إنها متابعة تجعل من التشكيل فنَّ قِيافةٍ أيضًا، أي اهتداء إلى أصول لن تكتب نفسها بلغة ابن عربي اللعوب والشفافة، التي تُراقص المعاني، وتتنفَّس غناها وإشراقاتها.
الحقيقة أن هذا الانتقال من اللغوي إلى البصري يجد أصله أيضًا في فكر ابن عربي نفسه، الذي يعتبر أن ثمة برْزخًا بين الحق والخلق، أي بين الألوهي والدنيوي البشري، هو عالم الصور. هذا العالم هو عالم الخيال الذي يجعل الألوهي يعيش قوة حضوره وانحجابه في مخلوقاته. عالم الصور هذا أيضًا هو عالم المرآة التي فيها تولدُ الصور وتتشكّل. إنه الفاصل الواصل بين الوجود الحسي والوجود الغيبي، ثمةَ حيث يغدو للكائنات النورانية من ملائكة وغيرها حق التصوُّر والتشكّل والتجسُّد. ثمة أيضا حيث يصير الألوهي محسوسًا فيؤنَّثُ وتصير له أسماء نسوةٍ كالنظام وزينب وغيرهما. إن عالم الصور كما يبنيه ابن عربي هو ما يمكّن من تقريب الحسي والمعقول. هو ذلك البيْن بيْن الذي يحطم كل الثنائيات الممكنة. إنه مجال الانتقال والتسامي والصعود والنزول، والقناة التي تجعل كل شيء ذا مظهرين: مرئي ولامرئي.
هنا بالضبط يدعونا الشيخ الأكبر إلى مقاربته ومقاربة عوالمه بالكثير من الحرية والمنظورية perspectivism، تلك التي مارسها هو نفْسُهُ في تملّك الكون وخالقه. أعني أن المقاربة الحسية تكون بحاجة إلى أنوار المقاربة العرفانية، وهي لا تستقيم إلا بالمزاوجة بين التنزيه والتشبيه.
وإذا كانت مقاربة مويا مقاربة نورانية، فذلك لأنه يعتبر أن تجربة التصوف لدى ابن عربي، تجربة التسامي. من ثم كان اختياره لسند خصوصي يتمثَّل في صفائح الألمنيوم، التي تترجم بشكل أو بآخر مفهوم المرآة المركزي لدى ابن عربي. أما الجوانب الحسية فقد تجلّت لديه في الاشتغال على مواد ترابية وخامات تخلق المفارقة والمواصلة بين السماوي والأرضي، وبين الحسي والروحاني. وبذلك تكون هذه المتابعة لابن عربي أشبه بالسيرة الروحانية والبصريّة التي تعيد دفين دمشْق هذا إلى الأندلس بعد أن تركها سعيًا إلى أنوار الشرق.