04 نوفمبر 2024
ذلك الزمن المختلف
في سياق مجادلةٍ، اختلفت فيها وجهات النظر، وتطورت إلى مناكفةٍ نقديةٍ لم تخلُ من حدّةٍ وانفعالٍ، جرت ذات مساء، كان أحد طرفيها عبد الحليم حافظ، في جلسةٍ فنيةٍ في منزله، بحضور أصدقاء مقربين، كتّاب وإعلاميين مشاهير وقامات فنية من أصحاب التجارب الإبداعية الاستثنائية التي تركت إرثا فنيا وثقافيا عظيما، من وزن بليغ حمدي ومحمد الموجي. أما الطرف الثاني فكان الشاعر الغنائي الفذ عبد الرحمن الأبنودي الذي أثرى المكتبة العربية بقصائد غنائية بديعة، أصبحت من أهم المراجع الجمالية لدينا. سخر الأبنودي، في تلك السهرة، من كلمات الأغاني الكلاسيكية الحزينة التي كانت تصاحب نهايات الأفلام العاطفية في ذلك الزمن المختلف، محملة بكثير من الشجن والأسى واللوعة والتفجّع. لم يكتف بذلك، بل هاجم وانتقد أفلام عبد الحليم، خصوصا التي نادرا ما كانت تتوّج بنهاية تفرح القلب، حيث البطل، وضمن عقدة درامية ساذجة، يغني كلماتٍ حزينةٍ، فيما البطلة مشلولة تذرف دموعا غزيرةً بالقرب من مذياعٍ يبث الأغنية التي تقطع نياط القلوب، وتستدر بسهولةٍ دموع رواد السينما، مرهفي الحس، رقيقي القلوب.
قال عبد الحليم لصديقه الشاعر: "لو سمحت، دي كلمات لأساتذه كبار، لهم بصمتهم، خليك إنت في الشعبي. يا أبنودي، إنت ما تقدرش على النوع ده من الكتابه". استفز الشاعر الصعيدي الشاب، المعتز بنفسه، الواثق من موهبته ونجوميته الصاعدة، في تواز مع كبار مغني عصره الذين قدّم لهم أجمل الكلمات، وأكثرها بساطةً وعفويةً وتعبيرا عن مفردات البيئة المصرية الغنية. فنانون وفنانات كبار، مثل شادية ونجاة ومحمد رشدي وغيرهم، حققوا نجاحا جماهيريا بفضل أغنياته. تحدى الأبنودي صاحبه الفنان المرهف، النزق المتشكّك، وأكد له أنه غير عاجز عن كتابة هذا النوع من الشعر. وفي مدة زمنية قياسية، استجاب عبد الحليم للتحدّي، قائلا: إذا نجحت في ذلك، فإن لك أن تحدد الأجر المطلوب بدون نقاش هذه المرة.
وبحسب الرواية التي سردها الأبنودي، بحنين وحب كبيرين، في أكثر من لقاء تلفزيوني، غاب تلك الليلة، بعد أن طلب ورقة وقلما ثلث ساعة فقط. في غرفة الطعام، وبينما أصوات الأصدقاء وحواراتهم تصل إليه، وهو يبحر بعيدا في أعماق روحه، خرجت منه كلمات واحدةٍ من أهم الأغاني العاطفية الكلاسيكية التي أثّرت، وما تزال، على مشاعر أجيال، تجاوزت ذلك العصر الذهبي الجميل. يكسب الأبنودي الرهان، ويقرأ الكلمات بدايةً بغير اهتمام، وبشيءٍ من الاستخفاف، فيقرّعه العندليب، مطالبا إياه أن يعطي الكلمات حقها، فيعيد القراءة بإحساسٍ حقيقيٍّ مختلف. يُنصت الجميع بانتباه كبير. ويفرح حليم بخسارة المكسب. تثير الكلمات شهية محمد الموجي، فيتناول عوده، قائلا: إنت قلت إيه يا أبنودي؟"، ليشرع في تلحين الكلمات الطازجة، كي تظل أغنية "أحضان الحبايب" (1970) نتاج لحظة إشراقٍ لثالوثٍ إبداعي، غير قابل للتكرار، علامةً فارقة في تاريخ الشعر المحكي. ولتبقى كلمات الأغنية ملاذا للعشاق الحزانى المطعونين في يقينهم، السائرين على أشواك الخذلان والخيبة. وتؤكد هذه الحكاية التي تبدو بسيطةً على الفن ضرورة وملاذا وتنفسّا، وقدرته على تخطّي الأزمان والأماكن، والمكوث طويلا في الوجدان.
رحل كل أولئك العمالقة الكبار الذين جعلوا من الجمال حرفةً، مسلحين بالموهبة والتواضع، والرغبة في المعرفة، بدون تنظير ولا ثرثرة فوقية عن طقوس الكتابة المركبة، ذلك أن الإبداع الحقيقي ينبثق بسهولةٍ، وبدون مقدماتٍ كثيرةٍ، في النهاية يجد طريقه، حتى لو كان من خلال طاولة طعام جلس عليها شاعرٌ مجنون، كي يكسب رهانا مع صديقٍ لا يقل جنونا!
وبحسب الرواية التي سردها الأبنودي، بحنين وحب كبيرين، في أكثر من لقاء تلفزيوني، غاب تلك الليلة، بعد أن طلب ورقة وقلما ثلث ساعة فقط. في غرفة الطعام، وبينما أصوات الأصدقاء وحواراتهم تصل إليه، وهو يبحر بعيدا في أعماق روحه، خرجت منه كلمات واحدةٍ من أهم الأغاني العاطفية الكلاسيكية التي أثّرت، وما تزال، على مشاعر أجيال، تجاوزت ذلك العصر الذهبي الجميل. يكسب الأبنودي الرهان، ويقرأ الكلمات بدايةً بغير اهتمام، وبشيءٍ من الاستخفاف، فيقرّعه العندليب، مطالبا إياه أن يعطي الكلمات حقها، فيعيد القراءة بإحساسٍ حقيقيٍّ مختلف. يُنصت الجميع بانتباه كبير. ويفرح حليم بخسارة المكسب. تثير الكلمات شهية محمد الموجي، فيتناول عوده، قائلا: إنت قلت إيه يا أبنودي؟"، ليشرع في تلحين الكلمات الطازجة، كي تظل أغنية "أحضان الحبايب" (1970) نتاج لحظة إشراقٍ لثالوثٍ إبداعي، غير قابل للتكرار، علامةً فارقة في تاريخ الشعر المحكي. ولتبقى كلمات الأغنية ملاذا للعشاق الحزانى المطعونين في يقينهم، السائرين على أشواك الخذلان والخيبة. وتؤكد هذه الحكاية التي تبدو بسيطةً على الفن ضرورة وملاذا وتنفسّا، وقدرته على تخطّي الأزمان والأماكن، والمكوث طويلا في الوجدان.
رحل كل أولئك العمالقة الكبار الذين جعلوا من الجمال حرفةً، مسلحين بالموهبة والتواضع، والرغبة في المعرفة، بدون تنظير ولا ثرثرة فوقية عن طقوس الكتابة المركبة، ذلك أن الإبداع الحقيقي ينبثق بسهولةٍ، وبدون مقدماتٍ كثيرةٍ، في النهاية يجد طريقه، حتى لو كان من خلال طاولة طعام جلس عليها شاعرٌ مجنون، كي يكسب رهانا مع صديقٍ لا يقل جنونا!