18 نوفمبر 2024
ذيب على البساط الأحمر
وسط بهجة الأهالي واندفاعهم، وتراكض الصغار متحمسين، وتواري الصبايا الخجولات خلف الأبواب المواربة، نصبت الخيام، ومدّت البسط، وأشعلت المصابيح، ودارت فناجين القهوة العربية المرّة، المطعمة بالهيل والطيب. وتعالت عبارات الترحيب في الشاكريه، القرية الصغيرة النائية في وادي رم في الأردن، المكان الأكثر جمالاً وسحراً وغموضاً الذي يؤمه السياح، على محدودية الخدمات فيه وبساطتها. هناك، انطلق أول عرض لفيلم "ذيب" الحائز على جوائز عالمية من مهرجانات سينمائية كبرى، قبل أن يترشح، أخيراً، للتنافس على جائزة أوسكار عن فئة الأفلام الأجنبية في سابقةٍ، لعلها الأولى لفيلم عربي تجاوز معضلة التمويل الأجنبي، وحصل على دعم جهات عربية.
ارتأى المخرج الأردني، ناجي أبو نوار، في خطوةٍ تدل على أصالةٍ ووفاءٍ وحس انتماء، أن يدشّن عروض فيلمه بين أهل القرية الوادعة التي استضافته بحبٍّ وسخاء، عاماً ونصف العام، أصبح فيها من أبنائها، يشاركهم صباحاتهم وتفاصيل نهاراتهم، ينضم إلى الرجال في المساءات، حيث التعليلية والحكايات والقصيد والخيال الجامح والصمت والمدى المفتوح والتأمل الحر، وتذوق جمالياتٍ بكر نادرة الحدوث، والإحساس الفريد بإمكانية قطف النجوم المكتظة، مثل ثريا ضخمة في سماءٍ قريبةٍ، بالغة الصفاء، منغمساً في إتقان مفردات بيئة غامضة ساحرة مركبة حافلةٍ، بالخفايا والأسرار العصية، مطلعاً عن كثب على عوالم الصحراء المغرقة في القدم والعراقة والصعوبة والتقشف، حيث رائحة التاريخ العتيق مقيمة، لا تبارح المكان.
حمل ناجي شغفه وحلمه وتصميمه، معتمداً على مستوى عالٍ من التقنيات الفنية والمضامين الإنسانية، حيث الصدام بين الشرق والغرب وقسوة الوجود وقبح الغدر. بدا ناجي لأبناء القرية البدوية فتىً حالماً مجنوناً، غريباً عن واقعهم، طارئاً على همومهم غير البسيطة. توجّسوا خيفةً في البدء، وهم المنهمكون بمقارعة ظروفٍ معيشيةٍ مقفرةٍ وقاحلةٍ، لا تبيح لهم ترفاً كهذا. يعاركون الصعب، يتدبّرون أمرهم يوماً بيوم، ويُدارون خيباتهم في جنوبٍ حزينٍ ومهملٍ وبعيد، وهم المعزولون عن عالمٍ تنكّر لهم، ومنحهم الحد الأدنى من كل شيء. جاءهم، وهو أردني الأصل والهوى، لندني المولد والنشأة، بملامحه الطيبة، وموهبته الفذة، مسكوناً بالإرادة على تحقيق المستحيل، وكان قد بدأ حياته قهوجياً في شركاتٍ سينمائيةٍ في العاصمة البريطانية. وأتاحت له تلك الفضاءات اطلاعاً على كل حديثٍ في علم السينما، فتفجّرت موهبته، ونال اعتراف العالم بتميّزه في فيلمٍ سيظلُّ حاضراً في ذاكرات كثيرين، لما تضمنه من جمالياتٍ في كل التفاصيل، سواء على مستوى الجماليات البصرية البارعة، أو الموسيقى المصاحبة لإيقاع الفيلم المحفز على التأمل والحوار المقتضب الذكي الذي يحبس الأنفاس، وفيما تحضر مفردات الصحراء وفضاؤها الوحشي الحنون شخصيةً أساسية في الفيلم، في تقاطع جليٍّ مع الفيلم الشهير "لورنس العرب" الذي تناول الحقبة والبيئة نفسها.
العبقري في الأمر اعتماد المخرج على أشخاصٍ من المنطقة، لم يُزاولوا فن التمثيل في أي يوم، أخضعهم لعدة ورشات، وتركهم على سجيّتهم التي تبدّت في اللهجة وحراك الشخصيات بشكل عفوي ضمن محيطها الطبيعي، فجاءت النتيجة مبهرةً أقرب ما تكون إلى الواقع، كما برع الفتى جاسر في تجسيد شخصية ذيب، الصبي الذي تبع أخاه في رحلةٍ شاقةٍ حافلةٍ بالمفاجآت والأحزان والغدر والخيبة والأحزان، ليقدّم لنا صورة فائقة البلاغة عن ملامح المنطقة والأحداث التاريخية التي عصفت بها عام 1916.
ومع التأكيد على التطلع إلى حصول "ذيب" على الأوسكار الشهر المقبل، ثمّة نقطة ضعف أساسية، هي غياب المرأة بالمطلق، فلم تكن هناك أم قلقة أو شقيقة مشتاقة أو حتى جدة تبتهل بالدعاء، ما يكرّس نظرة الغرب المغلوطة إلى المرأة كائناً خرافياً غامضاً تناولها المستشرقون موضوعاً جنسياً بحتاً. والمؤسف أن منجزاً جمالياً عربياً كهذا أتيحت له كل أسباب الشهرة والنجاح يخلو من نموذجٍ نسائي إيجابي. ولكن، أياً كان الأمر، يظل "ذيب" في رحلته نحو البساط الأحمر في هوليود خطوةً تبعث على الفرح، وارتفاع منسوب الأمل لدينا بواقع سينمائيٍّ عربيٍّ نظيف وجاد وجديد.
ارتأى المخرج الأردني، ناجي أبو نوار، في خطوةٍ تدل على أصالةٍ ووفاءٍ وحس انتماء، أن يدشّن عروض فيلمه بين أهل القرية الوادعة التي استضافته بحبٍّ وسخاء، عاماً ونصف العام، أصبح فيها من أبنائها، يشاركهم صباحاتهم وتفاصيل نهاراتهم، ينضم إلى الرجال في المساءات، حيث التعليلية والحكايات والقصيد والخيال الجامح والصمت والمدى المفتوح والتأمل الحر، وتذوق جمالياتٍ بكر نادرة الحدوث، والإحساس الفريد بإمكانية قطف النجوم المكتظة، مثل ثريا ضخمة في سماءٍ قريبةٍ، بالغة الصفاء، منغمساً في إتقان مفردات بيئة غامضة ساحرة مركبة حافلةٍ، بالخفايا والأسرار العصية، مطلعاً عن كثب على عوالم الصحراء المغرقة في القدم والعراقة والصعوبة والتقشف، حيث رائحة التاريخ العتيق مقيمة، لا تبارح المكان.
حمل ناجي شغفه وحلمه وتصميمه، معتمداً على مستوى عالٍ من التقنيات الفنية والمضامين الإنسانية، حيث الصدام بين الشرق والغرب وقسوة الوجود وقبح الغدر. بدا ناجي لأبناء القرية البدوية فتىً حالماً مجنوناً، غريباً عن واقعهم، طارئاً على همومهم غير البسيطة. توجّسوا خيفةً في البدء، وهم المنهمكون بمقارعة ظروفٍ معيشيةٍ مقفرةٍ وقاحلةٍ، لا تبيح لهم ترفاً كهذا. يعاركون الصعب، يتدبّرون أمرهم يوماً بيوم، ويُدارون خيباتهم في جنوبٍ حزينٍ ومهملٍ وبعيد، وهم المعزولون عن عالمٍ تنكّر لهم، ومنحهم الحد الأدنى من كل شيء. جاءهم، وهو أردني الأصل والهوى، لندني المولد والنشأة، بملامحه الطيبة، وموهبته الفذة، مسكوناً بالإرادة على تحقيق المستحيل، وكان قد بدأ حياته قهوجياً في شركاتٍ سينمائيةٍ في العاصمة البريطانية. وأتاحت له تلك الفضاءات اطلاعاً على كل حديثٍ في علم السينما، فتفجّرت موهبته، ونال اعتراف العالم بتميّزه في فيلمٍ سيظلُّ حاضراً في ذاكرات كثيرين، لما تضمنه من جمالياتٍ في كل التفاصيل، سواء على مستوى الجماليات البصرية البارعة، أو الموسيقى المصاحبة لإيقاع الفيلم المحفز على التأمل والحوار المقتضب الذكي الذي يحبس الأنفاس، وفيما تحضر مفردات الصحراء وفضاؤها الوحشي الحنون شخصيةً أساسية في الفيلم، في تقاطع جليٍّ مع الفيلم الشهير "لورنس العرب" الذي تناول الحقبة والبيئة نفسها.
العبقري في الأمر اعتماد المخرج على أشخاصٍ من المنطقة، لم يُزاولوا فن التمثيل في أي يوم، أخضعهم لعدة ورشات، وتركهم على سجيّتهم التي تبدّت في اللهجة وحراك الشخصيات بشكل عفوي ضمن محيطها الطبيعي، فجاءت النتيجة مبهرةً أقرب ما تكون إلى الواقع، كما برع الفتى جاسر في تجسيد شخصية ذيب، الصبي الذي تبع أخاه في رحلةٍ شاقةٍ حافلةٍ بالمفاجآت والأحزان والغدر والخيبة والأحزان، ليقدّم لنا صورة فائقة البلاغة عن ملامح المنطقة والأحداث التاريخية التي عصفت بها عام 1916.
ومع التأكيد على التطلع إلى حصول "ذيب" على الأوسكار الشهر المقبل، ثمّة نقطة ضعف أساسية، هي غياب المرأة بالمطلق، فلم تكن هناك أم قلقة أو شقيقة مشتاقة أو حتى جدة تبتهل بالدعاء، ما يكرّس نظرة الغرب المغلوطة إلى المرأة كائناً خرافياً غامضاً تناولها المستشرقون موضوعاً جنسياً بحتاً. والمؤسف أن منجزاً جمالياً عربياً كهذا أتيحت له كل أسباب الشهرة والنجاح يخلو من نموذجٍ نسائي إيجابي. ولكن، أياً كان الأمر، يظل "ذيب" في رحلته نحو البساط الأحمر في هوليود خطوةً تبعث على الفرح، وارتفاع منسوب الأمل لدينا بواقع سينمائيٍّ عربيٍّ نظيف وجاد وجديد.