27 أكتوبر 2024
رجال المال واللجوء
يعقد الصناعيون والمصرفيون الألمان قمة اقتصادية دورية في ميونخ. ويحمل اللقاء عنواناً متميزاً سنوياً يستعرض همّاً مشتركاً في الحقل الاقتصادي، مع الأخذ بالاعتبار مختلف الأبعاد السياسية والجيوسياسية. كما يدعون، غالباً، نُظراءهم من دولٍ لها استثمارات مهمة في/ أو مع ألمانيا. وهذه السنة، وفي الدورة الخامسة عشرة لهذه القمة، اختار المنظمون أن يكون موضوع الهجرة المحور، من دون تمييز واضح بين مسألتي الهجرة واللجوء، فالمدينة كانت، في الخريف الماضي، محطة الوصول الأولى لللاجئين القادمين من الشرق المُدمّى. وكما تذكر الإحصاءات التي افتتح بها اللقاء، استقبلت المدينة يومياً ما لا يقل عن ثلاثين ألف لاجئ من أكتوبر/ تشرين الأول وحتى ديسمبر/ كانون الأول 2015.
يكاد المراقب أن ينتظر من مجموع رجال الأعمال "الكبار" المجتمعين أن يُعالجوا قضية الهجرة واللجوء بسطحيةٍ ميركانتيليةٍ عهدنا، واستسهلنا وصمهم بها. كما تعوّد المشكك بأي إيجابية تحملها الأنظمة الليبرالية تجاه القضايا الانسانية أن يُصدر أحكامه المسبقة بخصوص ما ستؤول إليه هذه اللقاءات، لكن لقاء ميونخ هذا العام "أساء" لهذه الحتميات، وأطاح جزءاً مهماً منها.
"إن أردتم أن يكون اللاجئ مقبولاً، يجب أن تساهموا في إدخاله في عجلة الإنتاج". هكذا بدأ أحد كبارهم القول، مُعلناً طبيعة النقاشات. وكما يبدو، من هذه الملاحظة المدخلية، فالوعي بالمسألة يتجاوز مبدئياً الطريقة الكاريكاتورية التي ما فتئ جُلّنا وصم أصحاب المال بها.
تسلّح الحضور بدراساتٍ وبياناتٍ تفصيليةٍ تحمل وصفاً دقيقاً للشرائح العمرية والتركيبات الاجتماعية، كما التكوين العلمي والمهني لمجموع من دخل إلى ألمانيا خلال العامين الماضيين. حيث شكل السوريون منهم ما يتجاوز الـ 46%، وأتى بقيتهم من العراق وأفغانستان وإريتريا ونيجيريا. واستعان المنظمون بباحثين وخبراء أكاديميين في مسألة الهجرة، حتى لا يتمادوا على حقلٍ له أصوله العلمية ومقوماته البحثية. اعترافٌ ثانٍ بمحدودية الإلمام.
بدت ضرورة إدماج اللاجئين كأنها عنوانٌ أساسي لمجمل المداخلات، مع إهمال نسبي للبعد السياسي الذي أدّى إلى خروجهم من ديارهم، مما حرّضني على التذكير به مرات عدة، وخصوصاً فيما يتعلق المقتلة السورية. وفتح هذا التذكير النقاش حول المسؤوليات المتعدّدة، والدور الإقليمي، كما الدولي، في استنباط الحلول، أو متابعة النزاع. وكان من المفاجئ تقديم بعض مسؤولي الأمم المتحدة الكبار، والموجودين في هذا اللقاء، نقداً لاذعاً لضعف الإرادة السياسية في المنظمة الدولية، وعزوا ذلك إلى ضعف شخصية الأمين العام الحالي، بان كي مون.
وكما أن المسار العام كان للإدماج في العملية الإنتاجية، وبالتالي، فتح مجالات العمل والنشاط الاقتصادي بأوسع ما يمكن لمجموع اللاجئين، أو على الأقل، لمجموعةٍ كبيرة منهم، فقد تنبّه المجتمعون إلى أهمية الإعلام ودوره في المساعدة بهذا الاتجاه. فسرد القصص الإيجابية والتجارب الناجحة التي ترتبط باستقرار اللاجئ ونشاطه، لا يجب أن يُعتبر مسألةً هامشية، بل يجب التركيز عليها، ووضع الإمكانات المناسبة لتنفيذها بطريقة مؤثرة وجذّابة.
من جهة سوق العمل، أجمع الحضور، وهم من أصحابه، على أن التدريب والتأهيل أساسيان
للإدماج. وبالتالي، المسؤولية الاجتماعية لجموع رجال الأعمال تُلزمهم بالاستثمار في هذا الحقل، والذي سيعود عليهم بأرباح مهمة في المدى المتوسط، كما أنه سيُساعد في امتصاص التوتر الاجتماعي الذي يمكن أن يستغله المتطرفون في المدى القصير. فعلى الرغم من وجود ميلٍ إيجابي إلى "استغلال" اللاجئين اقتصادياً، اتضح الرفض الصريح للخطاب اليميني المتطرف، وكل أنواع الخطابات الشعبوية المرافقة له. وبيّن النقاش العام أن جمهور المتطرفين، في الحالة الألمانية على الأقل، هم من الطبقة الوسطى والطبقة العاملة.
في جلسات القمة، وحتى في الجلسات الجانبية، لم تخرج عبارة واحدة تتعرّض بالسلب أو السلبية لجموع اللاجئين، بل على العكس، جرى التشديد على إمكانية الاستفادة منهم، وتشجيع اندماجهم والابتعاد عن الحديث مبدئياً عن العودة إلى الموطن الأصلي. فكرة العودة وجد جُلُّ المجتمعين وقعها سلبياً على مسألة الاندماج والتدريب والتعليم. فمن سيقوم بهذه الخطوات، إن "نحن" استمررنا بالحديث عن العودة إلى الوطن؟
حوارات غنية و"مُبشّرة" بوعي اقتصادي/ مصالحي/ إنساني لملف اللجوء. غاب عن رجال "اليمين" الألماني، وهم أغلب الحاضرين، توجيه أي انتقاد لسياسات المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في إدارة الملف. وعاب بعضهم أيضاً على بعض رجالات اليسار الأوروبي، مثل رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، مواقفهم المعادية للسياسات الألمانية في هذه المسألة. وأثيرت انتقادات مؤلمة بحق الجاليات المستقرة والقادمة قديماً من بلاد اللاجئين الجدد: لا يوجد أي نشاط أو تأطير أو اهتمام، بل وحتى إن بعضهم "يُعادي هؤلاء المتطفلين الجدد على مكتسباته".
وعودٌ استثمارية، قروض "اندماج"، تدريب وتأهيل، تعليم جامعي وإعلام إيجابي يُعالج مسألة اللجوء في أسبابها ونتائجها بعيداً عن الصورة النمطية والأحكام المسبقة، تلكم كانت أهم التوصيات التي أجمع الحضور على تبنيها. غابت لغة الخوف والترهيب تماماً، ولم يجر الربط التقليدي بين تصاعد أرقام اللجوء وازدياد العمليات الإرهابية. كاد اللقاء أن يكون "وردياً" لولا أن وزير الداخلية في حكومة مقاطعة بافاريا "أتحفنا" بعبارةٍ خارج السياق تماماً، حينما عبر عن امتنانه لدول البلقان، بإغلاقها الحدود أمام المجموعات الجديدة. ولكن، تم تذكيره بأن هذا الحل الأمني لم يؤدّ إلا إلى زيادة مخاطر اللجوء وتكاليفه، وهو عارٌ على "القيم الأوروبية".
يكاد المراقب أن ينتظر من مجموع رجال الأعمال "الكبار" المجتمعين أن يُعالجوا قضية الهجرة واللجوء بسطحيةٍ ميركانتيليةٍ عهدنا، واستسهلنا وصمهم بها. كما تعوّد المشكك بأي إيجابية تحملها الأنظمة الليبرالية تجاه القضايا الانسانية أن يُصدر أحكامه المسبقة بخصوص ما ستؤول إليه هذه اللقاءات، لكن لقاء ميونخ هذا العام "أساء" لهذه الحتميات، وأطاح جزءاً مهماً منها.
"إن أردتم أن يكون اللاجئ مقبولاً، يجب أن تساهموا في إدخاله في عجلة الإنتاج". هكذا بدأ أحد كبارهم القول، مُعلناً طبيعة النقاشات. وكما يبدو، من هذه الملاحظة المدخلية، فالوعي بالمسألة يتجاوز مبدئياً الطريقة الكاريكاتورية التي ما فتئ جُلّنا وصم أصحاب المال بها.
تسلّح الحضور بدراساتٍ وبياناتٍ تفصيليةٍ تحمل وصفاً دقيقاً للشرائح العمرية والتركيبات الاجتماعية، كما التكوين العلمي والمهني لمجموع من دخل إلى ألمانيا خلال العامين الماضيين. حيث شكل السوريون منهم ما يتجاوز الـ 46%، وأتى بقيتهم من العراق وأفغانستان وإريتريا ونيجيريا. واستعان المنظمون بباحثين وخبراء أكاديميين في مسألة الهجرة، حتى لا يتمادوا على حقلٍ له أصوله العلمية ومقوماته البحثية. اعترافٌ ثانٍ بمحدودية الإلمام.
بدت ضرورة إدماج اللاجئين كأنها عنوانٌ أساسي لمجمل المداخلات، مع إهمال نسبي للبعد السياسي الذي أدّى إلى خروجهم من ديارهم، مما حرّضني على التذكير به مرات عدة، وخصوصاً فيما يتعلق المقتلة السورية. وفتح هذا التذكير النقاش حول المسؤوليات المتعدّدة، والدور الإقليمي، كما الدولي، في استنباط الحلول، أو متابعة النزاع. وكان من المفاجئ تقديم بعض مسؤولي الأمم المتحدة الكبار، والموجودين في هذا اللقاء، نقداً لاذعاً لضعف الإرادة السياسية في المنظمة الدولية، وعزوا ذلك إلى ضعف شخصية الأمين العام الحالي، بان كي مون.
وكما أن المسار العام كان للإدماج في العملية الإنتاجية، وبالتالي، فتح مجالات العمل والنشاط الاقتصادي بأوسع ما يمكن لمجموع اللاجئين، أو على الأقل، لمجموعةٍ كبيرة منهم، فقد تنبّه المجتمعون إلى أهمية الإعلام ودوره في المساعدة بهذا الاتجاه. فسرد القصص الإيجابية والتجارب الناجحة التي ترتبط باستقرار اللاجئ ونشاطه، لا يجب أن يُعتبر مسألةً هامشية، بل يجب التركيز عليها، ووضع الإمكانات المناسبة لتنفيذها بطريقة مؤثرة وجذّابة.
من جهة سوق العمل، أجمع الحضور، وهم من أصحابه، على أن التدريب والتأهيل أساسيان
في جلسات القمة، وحتى في الجلسات الجانبية، لم تخرج عبارة واحدة تتعرّض بالسلب أو السلبية لجموع اللاجئين، بل على العكس، جرى التشديد على إمكانية الاستفادة منهم، وتشجيع اندماجهم والابتعاد عن الحديث مبدئياً عن العودة إلى الموطن الأصلي. فكرة العودة وجد جُلُّ المجتمعين وقعها سلبياً على مسألة الاندماج والتدريب والتعليم. فمن سيقوم بهذه الخطوات، إن "نحن" استمررنا بالحديث عن العودة إلى الوطن؟
حوارات غنية و"مُبشّرة" بوعي اقتصادي/ مصالحي/ إنساني لملف اللجوء. غاب عن رجال "اليمين" الألماني، وهم أغلب الحاضرين، توجيه أي انتقاد لسياسات المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في إدارة الملف. وعاب بعضهم أيضاً على بعض رجالات اليسار الأوروبي، مثل رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، مواقفهم المعادية للسياسات الألمانية في هذه المسألة. وأثيرت انتقادات مؤلمة بحق الجاليات المستقرة والقادمة قديماً من بلاد اللاجئين الجدد: لا يوجد أي نشاط أو تأطير أو اهتمام، بل وحتى إن بعضهم "يُعادي هؤلاء المتطفلين الجدد على مكتسباته".
وعودٌ استثمارية، قروض "اندماج"، تدريب وتأهيل، تعليم جامعي وإعلام إيجابي يُعالج مسألة اللجوء في أسبابها ونتائجها بعيداً عن الصورة النمطية والأحكام المسبقة، تلكم كانت أهم التوصيات التي أجمع الحضور على تبنيها. غابت لغة الخوف والترهيب تماماً، ولم يجر الربط التقليدي بين تصاعد أرقام اللجوء وازدياد العمليات الإرهابية. كاد اللقاء أن يكون "وردياً" لولا أن وزير الداخلية في حكومة مقاطعة بافاريا "أتحفنا" بعبارةٍ خارج السياق تماماً، حينما عبر عن امتنانه لدول البلقان، بإغلاقها الحدود أمام المجموعات الجديدة. ولكن، تم تذكيره بأن هذا الحل الأمني لم يؤدّ إلا إلى زيادة مخاطر اللجوء وتكاليفه، وهو عارٌ على "القيم الأوروبية".