سؤال ضروري لمستقبلها: في أي سياق تشكلت داعش؟(1-2)
في موسم الكتابات العابرة عن تنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا بـ "داعش"، نادرة هي المقالات الرصينة، التي تستدعي انتباهك وتجذبك إليها، وتقدم إضافة نوعية في تفكيك هذه الظاهرة "الطارئة". في 20 أغسطس/آب 2014، نشر الباحث السعودي، نواف القديمي، في موقع "العربي الجديد" مقالة مهمة من جزأين (أقرب إلى أن تكون دراسة) بعنوان "سؤال كبير.. كيف تشكلت داعش؟"، وصف فيها عقيدة التنظيم، وما يمكن أن نسميه تجاوزًا "مرتكزاته الفكرية"، وعلاقته بالسلفية الجهادية المعاصرة، وقدم تحليلاً سيكولوجياً لأعضائه وقيادته، وتكتيكاته القتالية، عدا عن علاقته بالفصائل السورية والعراقية.
وإذا كان القديمي قد انطلق من مقالة الدكتور، عزمي بشارة، والتي، على ما يبدو، فتحت نقاشًا جادًا عن التنظيم خارج التنميطات والتراشقات الإعلامية والاستثمار السياسي، فإن هذا المقال ينطلق من مقولة القديمي ان "الهمّ المعرفي والبحث عن مصلحة الجماعة العربية ومستقبلها هما اللذان يضعاننا، اليوم، أمام سؤال: كيف تشكّلت داعش؟"، وأبدأ من الإجابة المختصرة، والتي صاغها بشارة في ختام مقالته عن السؤال العقيم، وهي "أن هذه الحركات لم تنشأ في ظل نظام ديمقراطي، ولا في ظل ثورة ديمقراطية، بل نشأت في ظل الاستبداد والاحتلال، وعنف النظام الوحشي ضد الثورات. ولا شك لديّ في أنها قوى زائلة، بحكم مخالفتها منطق العصر والتاريخ، وتناقضها مع حاجات الناس ومتطلباتهم، وصدامها مع طبائع البشر في المجتمعات العربية المتمدنة".
وكون القديمي اختصر علينا جزءاً كبيرًا مما يجب أن يُكتب أو يقال، فإن السؤال الرئيسي والضروري، وأحاول هنا الإجابة عليه في مقالة "اعتبرها مكملة" هو: في أي سياق تشكلت داعش؟ لاستشراف مستقبل هذا التنظيم ومصيره.
ظرف الاحتلال .. من الجماعة إلى الدولة
لا نبتغي التفلسف، لكن تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، والذي أعلن عنه في أكتوبر/ تشرين الأول 2004 ليس هو ذاته جماعة "التوحيد والجهاد"، التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، وإن كان امتدادًا لها.
كما أن دولة العراق الإسلاميّة، والتي أعلن عنها في أكتوبر/ تشرين الأول 2006، ليست تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين في صيغتها التطورية. والدولة الإسلامية في العراق والشام، التي أعلن عنها أبو بكر البغدادي في 9 إبريل/نيسان 2013، ليست دولة العراق الإسلامية، وإن بدت في صور كثيرة لها هي ذاتها، وكذلك هي الدولة الإسلامية أو "الخلافة الإسلامية"، والتي أعلنها أبو محمد العدناني 29 يوليو/تموز 2014. لكل حكاية من الحكايات السابقة سياق، يختلف عن الأخرى.
والسياق لا يرتبط فقط بظروف البيئة المحيطة والتوازنات القائمة، بل بالخلافات الفكريّة، التي عاشها التيار السلفي الجهادي منذ أفغانستان، وحتى اليوم وغلبة إحداها، لتصبح المحرك الرئيسي لسلوك هذا التنظيم الجهادي، أو ذاك، ولنهج قياداته.
كما أن تركيزنا على السياق يقودنا، مباشرةً، إلى نقطة تبدل الأعداء والحلفاء واختلاف تصنيفاتهم؛ تابع، مبايع، حليف مؤقت، استراتيجي، عدو حليف، عدو مسكوت عنه، عدو يؤخر قتاله، عدو قريب، عدو بعيد.
ويقودنا أيضًا إلى صراع " الأنا" و الـ"نحن"، والذي شغل التيار السلفي الجهادي على مدار عقود، وبلور اتجاهين. أولهما تقليدي؛ ونظر له أبو بكر ناجي في كتابه "إدارة التوحش"، يركز على مركزية التنظيم، وحصر العمل الجهادي تحت رايته، وبإشراف أميره المركزي. وثانيهما تحديثي؛ تبناه أبو مصعب السوري، في كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية"، ويركز على فكرة الجهاد والمقاومة دون التنظيم وهيكليته، وعلى الحصيلة الحسابية للعمل الجهادي دون إيلاء اهتمام كبير بـ "إقامة الحكومة الشرعية".
وتحضر في سيرورة داعش التطورية كل هذه التباينات، والتي سوف نستعرضها سريعا، قبل أن نتوقف عند محطة الثورات العربيّة. بدايةً، من الصعب على الحركات الجهاديّة أن تعمل وتنشط في ظل نظام استبدادي- أمني، كالنظام العراقي السابق، أو النظام السوريّ، حتى إذا توفرت لها بيئات حاضنة. وبناء عليه، لا يمكن الحديث عن الجهاد والجهاديين في العراق إلا بعد الاحتلال الأميركي وتداعياته، وانهيار الدولة العراقية، وحالة الفوضى السياسية والأمنية التي سادت، والمقاومة التي نشأت ضد الاحتلال، وضمت عراقيين ومتطوعين عرباً، دفعتهم حميتهم لمواجهة الغزو، وجهاديين عرباً وأجانب، استقطبوا تحت عنوان "التصدي للغزو الصليبي".
فضمن هذه الظروف، زرع أبو مصعب الزرقاوي البذرة الجهادية الأولى؛ بتأسيس جماعة "التوحيد والجهاد"، وحدد هدفها الرئيسي بمساندة فصائل المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي- البريطاني.
ولما وجد نفسه في تناغم وتطابق في الفكر والأهداف، "قتال العدو البعيد"، مع تنظيم قاعدة الجهاد، انضم الزرقاوي إلى التنظيم، وبايع أميره، أسامة بن لادن، وأصبح "أميرًا" لفرعه العراقي. لم يأت تأسيس فرع مستقل للقاعدة في العراق، تتمتع قياداته بصلاحيات واسعة، من فراغ، بل جاء ترجمة لأطروحة تبناها الظواهري، للتكيف مع المستجدات الدولية، بعد غزو افغانستان وفقدان التنظيم المقر الآمن ومعسكرات التدريب، وتتخلص في أن يحوز كل بلد نسخته الوطنية من "القاعدة".
وعلى الرغم من تبعيته، فإن خلافات ذات أبعاد أيديولوجية وتكتيكية واستراتيجية، طرأت بين قيادة القاعدة والزرقاوي، لا سيما بعد نزوع الأخير إلى جعل تنظيمه "مشروع سلطة"، وشحذه بمرتكزات فكرية تركز على الصراع الهوياتي (السني – الشيعي)، بدلاً من اطروحات القاعدة عن قتال العدو البعيد.
وفي هذا السياق، مثلت دولة العراق الإسلامية، والتي أعلن عنها عام 2006، نموذجاً جهادياً مختلفًا، سعى أميرها آنذاك، أبو عمر البغدادي، إلى تطبيق "أحلام" الزرقاوي ومشروعه السلطوي، وأفكاره باستهداف الشيعة والمخالفين لأفكار التنظيم، فانتشر التكفير وعم القتل، وتوسعت الانتهاكات بحق كل من يثبت أنه لا يبايع أو لا يقدم الولاء والطاعة للتنظيم، مما دفع بن لادن نفسه إلى الاعتذار عن هذا النهج.
الطموحات السلطوية، ونهج "التوحش" و"النصرة بالرعب" وتوسع الانتهاكات ونفور البيئات الاجتماعية الحاضنة، وفّرت للولايات المتحدة فرصة سانحة للقضاء على التنظيم، فيما عرف بمشروع باتريوس، أو ما يسمى "الصحوات"، والذي انتهى بطرد تنظيم الدولة من معظم المدن العراقيّة، وعزله في الصحارى منبوذاً، واغتيال قادته، واعتقال كوادره، بحيث لم يعد للتنظيم خلال ( 2008-2010) أي تأثير عملياتي باستثناء مفخخاته، والتي استهدفت الأبرياء أكثر ما استهدفت الأميركيين والجيش والشرطة العراقية. ونتيجة لذلك، وللحفاظ على بقائه، استعان تنظيم الدولة بضباط عسكريين بعثيين، تبوأوا مناصب قيادية، كالعميد محمد الندى الجبوري، وحجي بكر ..إلخ.
سياق الثورات .. من بيداء العراق إلى دولة الشام
غداة انطلاقاتها، فوجئت الحركات الجهادية بالثورات العربية ونهجها السلمي ونجاحها "المؤقت" في تونس ومصر واليمن في تغيير الحكام، من دون إسقاط الأنظمة أو تغييرها.
آنذاك، مثلت الثورات السلمية تحدياً للسلفية الجهادية، ولطروحاتها "العنفية" و"الانقلابية" للتغيير. كما أن حركات الإسلام السياسي بلورت أفكارها في إطار الدولة الوطنية "القطرية"، مما وجه ضربة قاسية للمفاهيم الأممية، وادعاءات الجهاديين بأن المسلمين يتوقون إلى دولة "الخلافة" التي تجمعهم.
ومن جديد، بدأ الجدل والنقاش ضمن التيار الجهادي عن الأساليب الواجب اتباعها للتكيف مع المستجدات الطارئة. ومن يراجع النقاشات الجهادية، وقتئذ، يلاحظ انزياح تنظيم القاعدة إلى التركيز على النشاط الشعبي، بدلاً من النخبوي، عبر ظاهرة "الأنصار"، كما حصل مع جماعة "أنصار الشريعة" التونسية في بدايتها. كما يمكن الإشارة إلى رسائل بن لادن المعروفة إعلاميا بـ "وثائق أبوت أباد"، والتي تدعو إلى اجتراح استراتيجيات مختلفة من أجل تحريض الناس، وتشجيعهم على التمرد على الحكام بشتى الأساليب، وفي مقدمتها الاحتجاج السلمي.
كل ما سبق، كان يؤشر إلى تغيرات عميقة في بنية تنظيم القاعدة وتفكيره، لا سيما وأن نماذجه الإقليمية فشلت في تقديم نموذجٍ جهادي ناجح. لكن مسار الربيع العربي وتطوراته، وتحول الثورات في ليبيا وسورية إلى العسكرة، شكل فرصة للحركات الجهادية، المتعطشة إلى الفوضى، لتعيد إنتاج نفسها في هذه الساحات.
وبخلاف سورية، لم تكن ليبيا ساحةً جاذبة للجهاديين، لأن التدخل العسكري الخارجي بداية ثوراتها، ولم يستسغ الجهاديون القتال في صف واحد مع عدو، "دول حلف الناتو"، يكفرونه ويقاتلونه.
أما في سورية، فتوفرت للحركات الجهادية، وفي مقدمتها دولة العراق الإسلامية، جميع الظروف الملائمة للبدء بمشروع جهادي جديد؛ نظام أمعن في استخدام كل الأسلحة ضد الشعب المنتفض على حكمه، ميليشيات طائفية ارتكبت المجازر، انتقال الثورة بشكل شبه كامل إلى الكفاح المسلح، خروج مناطق واسعة عن سيطرة النظام، بروز خطاب طائفي مضاد، تشكل فصائل إسلامية تنتمي إلى التيار السلفي الجهادي.
في هذا السياق، دخلت طلائع النصرة، بقيادة أبو محمد الجولاني، وبتكليف من أبو بكر البغدادي، إلى سورية أواخر عام 2011، لاستكشاف البيئات الاجتماعية المستعدة لقبول الخطاب الجهادي، والتغلغل فيها. ولما توطّنت بشكل سريع، مستغلة حاجة المسلحين السوريين إلى العون العسكري، وانتقلت من دون عوائق إلى خطوط القتال، أعلن الجولاني في 24 يناير/كانون الثاني 2013 عن تأسيس جبهة "النصرة". ونظرًا لمعرفته بسورية وبطبيعة مجتمعها، ابتعد الجولاني عند تأسيس "النصرة" عن النماذج الجهادية السابقة وأساليبها، ولا سيما نموذج العراق المنفر.
مثلت النصرة عند تأسيسها نموذجاً تجديدًيا في التيار السلفي الجهادي، يتبنى، إلى حد كبير، أفكار أبو مصعب السوري في كتاب دعوة المقاومة الإسلامية، فكانت فصائل وسرايا جهادية تجتمع على فكرة الجهاد، وتقاتل ضمن فهم "دفع الصائل ومقاومة العدو"، من دون أن ترفع عناوين عريضة، كإقامة الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة. وعلى الرغم من تبعيتها الفكرية لمدرسة القاعدة، والتنظيمية لدولة العراق الإسلامية، فإن مؤسسها تجنب "المبايعة" الصريحة لأي منهما، وابتعد عن سلوكياتها في العلاقات مع المجتمعات المحليّة، أو في العلاقة مع الفصائل.