سوسيولوجيا المؤتمرات
أثناء دراساتي العليا في حقل العلوم الاجتماعية، انصرف كل منا، الطلاب الزملاء، وبعد اعتقاد التمكّن من منهجية البحث العلمي، إلى الخوض في مرحلة اختيار موضوعات الرسالة العلمية ماجستيراً كانت أو دكتوراه. وغرقنا في "أمهات الكتب" العلمية، باحثين عن الموضوع الأهم، والعابر للحدود، والذي سيُفجّر المفاجأة، وسيُحدث الاقتحام الثاقب لحقل العلوم الاجتماعية، ويُغني المكتبة المرجعية، ويحفر أسماءنا على لوحة الشرف العلمي، أصحاب رسائل دراسية عالية الجودة وغنية المحتوى.
وتميّزنا، نحن الطلاب القادمين من الدول العربية، في اختيار مواضيع "أساسية"، طنانة العنوان، ظنّاً، من غالبيتنا، في أن معالجتها اعتماداً على منهجية علمية غربية صارمة، ستسمح باختراع العجلة، وإيجاد الحلول، أو نقض النظريات القائمة، أو إعادة التفكير فيها، أو في أسسها على أقل تقدير. فظهرت العناوين "الطنانة" عن الصراع العربي الإسرائيلي، من جوانبه كافة، الإقليمية أو الدولية، مستعرضة حقبه المتشابكة. ومال بعضنا إلى استعراض الحروب الأهلية التي عصفت ببعض البلدان، وكانوا معنيين مباشرة بمآلاتها.
وقليلون منا حاولوا أن يجدوا موضوعات عابرة للحدود الذاتية، والاهتمامات الشخصية، ليُغنوا أنفسهم أولاً، ويزوّدوا، أيضاً، المكتبة العلمية بدراسات مقارنة، تجتمع من خلالها مجموعة عوامل، تتجاوز البلد الواحد، وتأخذ حيّزاً اجتماعياً، أو سياسياً، أو اقتصادياً محدداً، يُساعد على فهم طبيعة الديناميكية المُسيّرة، أو المُسَيّرة، في الإطار المبحوث فيه، أو عنه.
وكان المشرفون على الأبحاث من "المستشرقين" الغربيين، يقبلون، على مضض، الموضوعات المطروحة، وإن تكررت، أو وإن حملت عناوين "فضفاضة"، لمعرفتهم، أولاً، بطبيعة تدريس العلوم الاجتماعية في بلد المصدر، أو لتكاسلٍ أكاديمي، أو بحثاً عن تعويض النقص في المعلومات الأولية، بعيداً عن التحليل في مكتبتهم وفي معارفهم غير المكتملة، ولا المتكاملة، عن المنطقة.
فوجئنا، حينذاك بطالبٍ طرح موضوعة "سوسيولوجيا المؤتمرات العلمية". فعمّ الاستهجان، خصوصاً في أوساطنا "المستغرٍبة". واعتبر جُلّنا أن هذا الطالب "الغربي" يبحث عن السهولة، وعن موضوع لا يأخذ كثيراً من الجهد والجدّ. وأنه سيتم رفضه حتماً، إن لم يجرِ لفظه من المجموعة الأكاديمية "المنتخبة"، التي كنا نعتقد بالانتماء إليها. فماذا يعني هذا العنوان؟ وعما سيبحث هذا الطالب في إطاره؟ أين المسائل الكبرى والصراعات الفكرية والمدارس التحليلية من هذا كله؟
في المحصّلة، عالجت هذه الدراسة بتواضع جمّ، وعلمية صارمة، موضوع المؤتمرات العلمية في العلوم الاجتماعية، في عملية "بحث تشاركي". أي أن الباحث شارك فيما يستطيع إليه سبيلاً من مؤتمرات، وراقب سيرها ومشاركيها، وتصرفاتهم العلمية والاجتماعية والإنسانية، وحتى العاطفية منها. وضمّت رسالته معلوماتٍ جزيلة الأهمية، بخصوص اختيار المواضيع المطروحة، والمشاركين في طرحها.
كما أشارت الدراسة إلى العامل الجندري، وكيفية تعامل المنظمين والداعين معه، وتناولت ميول المشاركين، والمشاركات، السياسية وانعكاساتها على مساهماتهم العلمية، ومدى تأثيرها سلباً، أو إيجاباً، على الموضوعية البحثية، وعلى المنهجية التي اتبعوها في طرح مساهماتهم المتنوعة. وتميّز البحث بالتعرّض إلى العلاقات الإنسانية التي يمكن أن تنشأ على هامش هذه اللقاءات، على الرغم من وقتها المحدود والقصير.
كما برع في وصف علاقات الحب الإشكالي، وغير النمطي، التي يمكن لها أن تُثمر من خلال تلاقي المواضيع، أو الهموم، أو الأساليب. وبالطبع، حاز ذلك البحث على تقديرٍ كبيرٍ، وتمُ نشره في كتاب أضحى مرجعاً مهماً.
تعود بي الذكرى إلى هذا الموضوع، مع كثرة مشاركاتي في مؤتمرات علمية، إقليمية ودولية، في المجال نفسه، في أثناء الحياة العملية. وأسترجع مضمون هذا البحث "التشاركي"، وأعيش تفاصيله في حلّي وترحالي.
وأبتسم، أحياناً، لتوافق نتائجه التحليلية، مع مشاهداتي المباشرة، وأتألم في أحايين كثيرة، على مشهد العلوم الاجتماعية العربي الذي كان، وما زال يعاني من الضعف الناجم حتماً عن عوامل موضوعية أكثر منها ذاتية.
فهذا الحقل "خطر قومي"، في عرف المؤسسات المستبدة فكرياً وسياسياً ودينياً. وهو "سلاح" يمكن أن يُساعد على معرفة الحقوق، ويُبيّن كيفية النوال، وطريقة الحفظ والعياذ بالله. فليس من المصادفة أن تكون جميع الكليات التي تتعامل مع هذا الحقل، في الدول العربية، الأسهل دخولاً.
وهي كليات "الصداع" أو "الفقر"، بحسب ما يقوله عنها مترصدوها. ومن يُتح له الخروج إلى عالم الغرب، لمتابعة دراساته في هذه الحقول، يعش فترة صعبة جداً من الضياع والخوف، لأنها تعتبر عند الغربيين من أهم الحقول المؤسسة علمياً.
مع تفجّر الأزمات في منطقتنا، تحفل المؤتمرات بباحثين من أبناء جلدتنا. كثيرون يلتزمون بالحضور وبالاستماع. منهم من يتلو ورقته المكتوبة، من دون التواصل مع المشاركين. وبعضهم يستعجل الانصراف إلى التسوّق، وهو جزء من طقس المشاركة.
أما ما تحدث عنه زميلي في بحثه، عن العلاقات العاطفية التي يمكن أن تنطلق في هذا المناخ، فيمكن لبعض ضحايا الكبت في تكوينهم الشبابي، من أن يحوّلوها إلى نوع من التحرّش. ومن المهم الآن، أن يوسّع هذا الزميل مجال البحث، ليتطرق إلى مؤتمرات المعارضات السياسية العربية، ويمكن تزويده بمجلدات من الشهادات، من دون أن يكون ضحية "التشاركية".