يشكّل العقدان الأولان، بعد النكبة، مرحلة مركزية في المشروع الكولونيالي الاستيطاني الإسرائيلي ولبنة أساسية في هذا المشروع. ففي حين كانت النكبة حجر الأساس في عملية البناء الفعلي للمشروع الاستيطاني الكولونيالي، شكّلت هذا الفترة المرحلة التي تمَّ من خلالها تشييد هذا البناء وتمكينه.
تحاول هذه المقالة إلقاء الضوء على واقع مدينة حيفا، عقب احتلالها، وتتركز بشكل خاص في تحليل سياسات الحيّز الإسرائيلية لتصل إلى استنتاج مؤداه أن سياسات الحيِّز التي مورست تجاه حيفا العربية، مباشرة بعد النكبة، هدفت بالأساس إلى محو عروبة المدينة، فعلياً، من ناحية، وتفتيت الجماعة العربية، رمزياً، من ناحية أخرى.
لم يكن من قبيل المصادفة أن استهدفت الحركة الصهيونية المدن الفلسطينية وقامت بحرب عنيفة تجاهها محاولة محوها بشكل شبه كامل وتفريغها من سكانها. وقد هدفت بهذا إلى بتر مشروع بناء المجتمع الفلسطيني الحديث وهو في طور التشكل، وقطع مسار التمدن السريع الذي كان في أوجه إبان النكبة.
شكلّت النكبة أولى خطوات محو المدن الفلسطينية، فقد تم إفراغ بعضها بشكل كامل، كما حدث لصفد وطبريا وتم طرد ما يقارب 95% من سكان حيفا واللد والرملة ويافا. ولم تكتف الحركة الصهيونية بطرد السكان من هذه المدن، بل قامت مباشرة بعد النكبة بفرض حكم عسكري على غالبتها العظمى، عدا مدينة حيفا التي على الرغم من أنها لم تقع بشكل رسمي تحت نظام الحكم العسكري إلا إنها خضعت لنفس الممارسات التي طالت سكان باقي المدن، كما سنظهر لاحقا.
تشير الإحصائيات إلى أن عدد سكان حيفا العرب قبل النكبة، وصل إلى ما أكثر من 70 ألف نسمة. وعاش معظمهم في مناطق حيفا العربية التي بدأت تتوسع بسبب زيادة الهجرة إليها، نتيجة الازدهار الاقتصادي الذي شهدته المدينة منذ بداية القرن التاسع عشر.
شكّل مركز المدينة القديمة النواة الاقتصادية والاجتماعية لحيفا، وعلى الرغم من توسع المدينة شرقا وغربا، فإن منطقة المدينة القديمة حافظت على أهميتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في حياة سكان المدينة.
تشكل هذا الحيز من أماكن عبادة؛ الجامع الكبير- الجرينة وجامع الاستقلال وعدة كنائس للطوائف المسيحية. وفي محيط أماكن العبادة ساحات كثرت فيها المحلات التجارية والأسواق مثل سوق السمك وسوق الحبوب والحسبة وسوق الشوام وسوق البيض وغيرها.
هذا بالإضافة إلى ساحة خمرة (ساحة الحناطير، لاحقا) التي تميّزت أيضا كمنطقة نشطة تجاريا. وفضلا عن القيمة الاقتصادية لهذه المنطقة فقد شكلّت أيضا حيزا عاما وحيزا سياسيا في المدينة، ولعبت دورا مركزيا في مسار التمدن المتسارع في المدينة.
وعليه لم يكن من قبيل الصدفة أيضًا أن هدم هذا الجزء من المدينة كان أول الممارسات التي نفذتها المؤسسة الصهيونية لاحقا لاحتلال المدينة.
وكما تشير مذكرات شبتاي ليفي، رئيس بلدية حيفا حينها، فإنه مباشرة بعد احتلال المدينة، حضر بن غوريون إلى حيفا وأمر بهدم أجزاء كبيرة من المدينة العربية على الرغم من أن كثيرا من المباني لم تصب بأضرار الحرب.
كتب ليفي يقول: "لبيت طلب بن غوريون لحضور اجتماع في حيفا.... باشر بن غوريون حديثه قائلا: اتضح أن ضررا أصاب بعض المباني في البلدة القديمة بسبب القذائف خلال فترة الحرب، واقترح أن نقوم بهدم المباني، تلك التي تضررت وأخرى لم تتضرر، الهدف تنفيذ خطة تطوير مستقبلية".
وبالرغم من اعتراض شبتاي ليفي على الهدم، كي تتهرب البلدية من دفع تعويضات للمتضررين، أضاف: "إلا أنني ذكرتّه بأنه (بن غوريون) اليوم بمكانة جمال باشا في الدولة العثمانية في حينه، وحين قرر جمال باشا في وقته توسيع شارع في مدينة يافا، نفذ الخطة بدون استشارة البلدية أو تفويض منها". ومباشرة بعد هذا التذكير أمر بن غوريون الضباط "باشروا بتنفيذ العملية على الفور".
لا تتوفر معرفة دقيقة حول موعد زيارة بن غوريون هذه، مع هذا وبحسب تفاصيل كتبها شبتاي ليفي ومستندات أرشيفية أخرى تتناول قضية الهدم يفترض أن الزيارة كانت مباشرة بعد الاحتلال، وأن بدايات الهدم كانت في حزيران/ يونيو أو تموز/ يوليو 1948 كأقصى حد، وأنها بالتأكيد لم تستند إلى مسار بيروقراطي "مهني" أيا كان.
ومع أن حدود عملية الهدم في تلك الفترة تحديدا غير معروفة بشكل دقيق أيضًا، تشير الوثائق الأرشيفية إلى أنها اعتمدت بشكل كبير على "خطة تطوير البلدة القديمة حيفا" التي بدأت سلطات الانتداب البريطاني تخطط لها عام 1934 وصودق عليها عام 1947.
تركزّت الخطة البريطانية المذكورة في إعادة هندسة الحيز في المدينة العربية من منظور استعماري استشراقي، هدف إلى "تطوير" البلدة القديمة من منطقة "تعمها الفوضى" المعمارية إلى منطقة "حديثة" بنسق غربي، مفتوحة على الميناء لتخدم المصالح التجارية والصناعية البريطانية. تم تعديل هذه الخطة أكثر من مرة خلال عشرة أعوام، وبدون الدخول في تفاصيل التغييرات، لضيق المقام، حملت صيغتها النهائية هدم أجزاء كبيرة من البلدة القديمة وإعادة بنائها من جديد بشكل حديث. غير أن الخطة لم تخرج إلى حيز التنفيذ بسبب اعتراضات وبسبب التكلفة الباهظة في تعويض أصحاب الأملاك المتضررين وكان معظمهم من العرب.
لا تكمن أهمية أمر بن غوريون العسكري بهدم البلدة القديمة مباشرة بعد النكبة، والتي أطلق عليها اسم "شيكمونا"، فقط في الدلالة المباشرة على أن المشروع الصهيوني يحمل في جيناته ميراثا كولونياليا استعماريا، بل أكثر في دلالاتها حول خاصيّة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني الذي اعتمد مبدأ المحو والإلغاء.
ففي حين تماشت خطة السلطات البريطانية الاستعمارية مع مميزات الاستعمار التقليدي الذي يسعى إلى استغلال الحيز والإنسان وتنظيمه بالشكل الذي يخدم مصالحها، تماشى هدم المدينة العربية لاحقا للنكبة مع مبدأ المحو المميز للاستيطان الكولونيالي. فقد تم هدم المدينة القديمة من مساكن وأسواق المنطقة المحيطة بأماكن العبادة.
وتشير الشهادات والمستندات الأرشيفية إلى أن ركام الهدم بقي عدة سنوات، وعدا عن فتح شارع مركزي في تلك المنطقة لم تقم فيها مشاريع إعمارية جديدة تذكر، وذلك على الرغم من حاجة الدولة إلى أماكن لإسكان المستوطنين الجدد الوافدين إليها.
ولإتمام محاولات المحو، على الصعيد الرمزي، قامت السلطات بتهويد أسماء شوارع وأحياء المدينة العربية. وقد عملت السلطات الصهيونية بشكل سريع على إسكان مستوطنين اليهود في الأحياء والبيوت العربية في المدينة العربية التي تطورت خارج المدينة القديمة، بعد أن قامت بإصدار أوامر عسكرية بتجميع الناجين من النكبة في "غيتو" حي وادي النسناس.
وبقيت المدينة العربية مع ركام الهدم عدة سنوات من دون ترميم أو إعادة إعمار. وعاش من نجا من النكبة من سكان المدينة على أنقاض مدينته المهدمة، بعد أن هدم مركزها الاقتصادي وتهوّدت شوارعها وأحياؤها. أمّا الحفاظ على أماكن العبادة المسلمة والمسيحية في هذه المنطقة فجاء ليشكل دلالة رمزية على ألا مكان للجماعة العربية في مدينة حيفا إلا كطوائف دينية تحتكم إلى نظام يسعى إلى تغيير معالم مدينتها بشكل شبه كامل.
(باحثة فلسطينية/ حيفا)