إفادة المحقق روبرت مولر، أمس الأربعاء، في جلستين متتاليتين أمام لجنتي العدل والاستخبارات في مجلس النواب الأميركي، جاءت إلى حدّ بعيد بحجم التوقعات. لا أعطت الديمقراطيين قضية متماسكة تتيح لهم المباشرة بإجراءات عزل الرئيس دونالد ترامب، ولا منحت الأخير براءة صريحة في قضية التحقيقات الروسية.
بقيت شهادة مولر صورة طبق الأصل تقريباً عن تقريره الذي رفعه في مارس/آذار الماضي حول هذه القضية، والذي ما زال يلفّه الالتباس والغموض بخصوص تحديد المسؤوليات، خاصة فيما إذا كان ترامب أو جماعته قد تواطؤا مع الروس للتدخل لصالحه في انتخابات 2016، وما إذا كان قد سعى لعرقلة سير العدالة أثناء عملية التحقيق.
مع ذلك احتكر حضور مولر في الكونغرس، الاهتمام والأضواء في واشنطن، فهو باستثناء تلاوة بيان مقتضب عن مهمته في يونيو/حزيران الماضي، لم يتحدث مرة بصيغة سؤال وجواب عن هذا الموضوع. ثم إنها المرة الأولى التي يتم فيها استدعاء محقق خاص في قضية من هذا الوزن لاستجوابه أمام الكونغرس، حول الجوانب الغامضة وغير الحاسمة في تقريره، ويأتي إلى الجلسة مزوداً بتوجيهات من وزير العدل بخصوص الحدود التي ينبغي عليه الالتزام بها في استجوابه. يضاف أن شهادته المنقولة بصورة حية، لا بدّ أن تؤثر في نظرة الرأي العام الذي لم تقرأ غالبيته تقرير مولر.
وزاد من الأهمية أن العودة إلى هذا الملف تأتي في ظل جو من التناحر السياسي غير المألوف في الكونغرس وبالتزامن مع افتتاح حملة انتخابات الرئاسة.
ما قاله مولر خلا من القنابل، ولم يكن مفاجئاً أن يقدم سرديته على وقع ما جاء في التقرير وبمزيج من التحفظ والتردد والاكتفاء بالإحالة إلى خلاصة التحقيقات. وأحياناً كثيرة آثر الامتناع عن الرد على نقاط عديدة، بحجة أنها سرية أو أنها مرتبطة بتحقيقات جارية أمام المحاكم أو لأنها خارجة عن إطار مهمته. كاد أن يفجّر قنبلة عندما قال ما يفيد بأن التحقيقات "اتهمت ترامب ويمكن ملاحقته بعد نهاية ولايته". لكنه سارع في الجلسة الثانية إلى التراجع بالقول إن التحقيقات لم تتوصل إلى إثبات مثل هذه التهمة.
في النواحي السلوكية والأخلاقية والوطنية، كانت خلاصاته واضحة. لكن هذه مسائل لا تترتب عليها عواقب قانونية. المؤذي للرئيس كان تأكيد مولر أن التدخل الروسي حقيقة لا تقبل الجدل وبما ينسف الزعم بأنه "خدعة" و"وهم" كما يردد ترامب. الأهم من ذلك كان حسم مولر وبصورة قاطعة بأن التقرير "لم يمنح البراءة" للرئيس في الجانب المتعلق بعرقلة سير العدالة. لكنه في الوقت ذاته نأى عن توجيه الاتهام بالاستناد إلى "فذلكة" بدت رخوة وبذريعة أنه لم يكن هناك من سبيل لاتخاذ مثل هذه الخطوة الجزائية ضد ترامب طالما أن وزارة العدل اعتمدت قاعدة عدم جواز اتخاذ هذا الإجراء خلال وجوده في الرئاسة. كما تبدت رخاوة تعليله في دفاعه عن عدم لجوئه إلى تسطير استدعاء إلزامي لاستجواب الرئيس قبل إغلاق التحقيقات.
شهادته وإن كانت غير مثيرة، فإنها عموماً أعطت الديمقراطيين في مجلس النواب بعض الزخم. الخطوة التالية ما زالت مدار جدل في صفوفهم. بعد ساعات قليلة من نهاية الإفادة عقدت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي ومعها رؤساء اللجان المعنية مؤتمراً صحافياً بدت فيه أكثر مرونة من السابق، تجاه خيار العزل الذي يبدو أنه أخذ شحنة من الدفع بعد ظهور مولر على الشاشة وما صدر عنه من إفصاحات على قلتها.
ومن المتوقع أن يزيد الزخم إذا ما جاءت الاستطلاعات في اليومين القادمين بأرقام أعلى مما كانت عليه قبل إفادة مولر (21 بالمائة مؤيدين للعزل). بيلوسي مانعت أصلاً على أساس أنه من المستحيل أن يصوت مجلس الشيوخ صاحب الكلمة الأخيرة على العزل. وبالتالي لا فائدة من هدر الوقت والجهد في مجلس النواب. لكن ممانعتها قد لا تصمد تحت ضغط اللحظة الراهنة فضلاً عن ضغط عامل الوقت. النافذة المتاحة لا تزيد عن شهرين حسب التقديرات المتداولة. بعدها تنصرف الاهتمامات إلى الحملة الانتخابية.
ومنذ، مساء، أمس بدأت النغمة تتعالى في صفوف القوى الدافعة بهذا الاتجاه من باب أنه إذا لم يكن الآن فمتى؟ بتأثير ذلك بدا أن بيلوسي تبدّلت لهجتها وشروطها بعض الشيء، حيث لوحت بهذا الاحتمال على أن يكون ذلك بعد البت بالدعاوى القضائية المرفوعة ضد الإدارة لرفضها التعاون مع تحقيقات الكونغرس. لكن ليس واضحاً ما إذا كان ذلك محاولة للتنفيس أم للتمهيد لقرار المباشرة بجلسات التحقيق الخاصة بالعزل. ما حصل بالكونغرس يمكن أن يشكل بداية في هذا الاتجاه وإلا باتجاه مغادرة هذا الملف لصالح التركيز على الانتخابات.