منذ إتمام اتفاق استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل، يصر المسؤولون الحكوميون المصريون على إدخالنا في متاهات اقتصادية، تلف وتدور حول تلك العملية "المشبوهة"، وهم في ذلك لا يتوقفون عن الكذب بدمٍ باردٍ، وخلط الحقائق بالأوهام دون أدنى إحساس بالمسؤولية.
ولما كنت غير متخصص في اقتصادات الطاقة، فقد كانت لديَّ بعض التساؤلات، التي أراها مشروعة، ولا تسعى، بإذن الله، لهدم صروح النجاح التي يتم بناؤها الآن.
بدايةً، هلل المسؤولون للصفقة، واعتبروا أننا نجحنا في تلقين تركيا درساً قاسياً، بعد أن نجحنا في أن نكون مركزاً إقليمياً لتصدير واستيراد الغاز في المنطقة. وكأن دخولنا في هذه الصفقة سيمنع تركيا أو غيرها من استيراده أو تصديره.
بعد ذلك اتجه هؤلاء السادة إلى القول إن هذه الصفقة غرضها الاستفادة من محطات تسييل الغاز الموجودة عندنا، حيث يتم فيها تسييل الغاز الإسرائيلي المستورد، ثم يعاد تصديره إلى أوروبا.
ولم يصدر أي توضيح لمصلحة من سيكون التصدير، مصر أم إسرائيل؟ فلو كان لمصلحة إسرائيل، فإن جزءاً كبيراً من المزايا الاقتصادية المزعومة سوف يتبخر. أما لو كان تصدير تلك الكميات المهولة من الغاز، والتي سيتم استيرادها على مدار السنين العشر القادمة، سيتم لمصلحة مصر، فربما تمثل تلك الصفقة خطأً كبيراً، خاصة في هذا التوقيت، والذي أصبحت الأطراف مستوردة الغاز فيه هي التي تُملي شروطها، كونها في الجانب الأقوى من المعادلة.
في بداية هذا العام، نشرت الفايننشال تايمز تقريراً عن الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا، قالت فيه إن "روسيا رضخت لضغوط أوروبية واضطرت لتخفيض سعر الغاز الطبيعي الذي تصدره، كرد فعل لمنافسة شرسة من الولايات المتحدة الأميركية، وقطر، ومُصَدِّرين آخرين".
فلو كنا اتخذنا قراراً باستيراد الغاز الطبيعي لمدة عشر سنوات، بسعر تم تحديده الآن، دون الاتفاق على إعادة تصديره فوراً، أي أننا قررنا تحمل مخاطرة أن يكون لدينا مركز فائض Long position (بلغة أهل البنوك) من الغاز في مثل تلك الظروف من زيادة المعروض، وتصارع المصدرين على الأسواق، فربما يكون "الجون" الذي تحدث عنه بعضهم قد دخل في مرمانا نحن، ولن نفلح إذاً أبداً!
ثم أين ذهبت روايات اكتفاء مصر الذاتي، وتوجهها نحو تصدير الغاز الطبيعي، الذي سيدر علينا المليارات من الدولارات، بعد اكتشاف ما قالوا عنه أكبر حقل غاز عرفته البشرية، والذي يتوقع أن يبدأ إنتاجه في غضون أشهر قليلة؟ هل أتممنا بيعه قبل أن نتورط في اتفاق نلتزم بموجبه باستيراد تلك الكميات من الغاز؟
بعدها فاجأتنا الدولة، ممثلة في أعلى رموزها، بأن "الحكومة المصرية ليست طرفاً في الصفقة التي تم توقيعها بشأن استيراد إحدى الشركات الخاصة كميات من الغاز الطبيعى من إسرائيل".
أين ذهبت إذاً المكاسب الاقتصادية للدولة التي عُلّقَت لها الزينات، وأقيمت لها الاحتفالات؟ أم تراهم يتوقعون أن يعم الخير علينا جميعاً من صفقة تخص القطاع الخاص، على غرار ما حدث للشعب المصري من صفقات حسين سالم العملاقة السابقة ومن الصفقات التطبيعية التي أبرمتها عائلة عرفة مع أولاد العم؟ مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن المثالين المذكورين كانا لاتفاقات تصدير، لا استيراد، ولاحظ اتجاه حركة العملة الأجنبية من وإلى مصر فيهما، مقارنة بالاتفاق الأخير.
لكن الكارثة الكبرى كانت في ما تمت الإشارة إليه على استحياء، من مسؤولين على أعلى المستويات في الحكومة المصرية، من ربطٍ تم بين اتفاق الاستيراد هذا، وغرامات قضت بها مراكز إقليمية للتحكيم التجاري الدولي، وتقدر بأكثر من مليار دولار، ترفعها الفوائد لتتجاوز 1.5 مليار دولار، تدفعها مصر تعويضاً لإسرائيل، أو لشركات إسرائيلية المنشأ، بسبب عدم التزام مصر بالوفاء بالتزاماتها مع تلك الشركات.
ثم نفاجأ قبل يومين بإعلان رئيس الوزراء بأنهم "توصلوا لاتفاق لحل القضية" في إحدى تلك المشكلات، ولا أستبعد أن يتم الإعلان قريباً عن حل "كل قضايا التعويضات مع الشركات الإسرائيلية" بعد إقرار اتفاق الاستيراد العظيم، وهو ما يعني أن السعر الذي تم الاتفاق عليه في صفقة الغاز، يشمل علاوة تعوض الطرف الإسرائيلي عن المبالغ المحكوم بها لهم، مع حفظ ماء وجه حكومة أخفقت في أغلب قضايا التحكيم الدولي التي كانت طرفاً فيها، أمام شعبها.
دارت كل أحاديثهم حول الجانب الاقتصادي كما رأينا، ونسوا أو تناسوا أن علاقتنا مع الصهاينة لم تقم أبداً على حسابات مادية أو مكاسب تجارية ومع ذلك كانت حجتهم داحضة.
وفروا لمعاهدات السلام دعماً استراتيجياً في صورة اتفاقات اقتصادية تدوم سنوات وسنوات، وتربط اقتصادنا باقتصادهم في أحد أهم محاوره وهو الطاقة، وكانت كل دفوعهم باطلة.
وقّعوا اتفاقاً يزيد التعاون والتنسيق بين الدولتين، ويكلل تنسيقاً استخباراتياً، وأمنياً، وعسكرياً كثيراً ما حاولوا إنكاره، ولا عجب إذاً أن يعتبره نتنياهو عيداً لإسرائيل.
اقــرأ أيضاً
غيّروا كل ما نشأنا عليه من ثوابت، ومسحوا تاريخ نضال الآلاف من الشهداء بجرة قلم. عدَّلوا التشريعات القانونية، ومهدوا البنية التحتية ثم زعموا أنه اتفاق يخص القطاع الخاص. ذبحوا كل شهداء العرب من جديد، ثم احتفلوا بتسجيل "جون"، أي هدف.
لم تقم مصر بتوقيعها على هذا الاتفاق التاريخي بنشاط تطبيعي، أصبح معتاداً هذه الأيام، وإنما منحت إسرائيلَ شرعيةً جاهدت على مدار قرون لاكتسابها.
الاتفاق على شراء الغاز، هو اعتراف ضمني بحقوق إسرائيل في غاز البحر المتوسط، دون أدنى اعتبار لأي حقوق أو مصالح فلسطينية، لا يستطيع إنكارها أي طرف، ولا حتى الطرف الصهيوني نفسه.
هو اتفاق لا يقل في معناه وفي مداه عن اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمة لإسرائيل، والله يرحم كل شهدائنا الذين ماتوا دفاعاً عن الحق العربي.
ولما كنت غير متخصص في اقتصادات الطاقة، فقد كانت لديَّ بعض التساؤلات، التي أراها مشروعة، ولا تسعى، بإذن الله، لهدم صروح النجاح التي يتم بناؤها الآن.
بدايةً، هلل المسؤولون للصفقة، واعتبروا أننا نجحنا في تلقين تركيا درساً قاسياً، بعد أن نجحنا في أن نكون مركزاً إقليمياً لتصدير واستيراد الغاز في المنطقة. وكأن دخولنا في هذه الصفقة سيمنع تركيا أو غيرها من استيراده أو تصديره.
بعد ذلك اتجه هؤلاء السادة إلى القول إن هذه الصفقة غرضها الاستفادة من محطات تسييل الغاز الموجودة عندنا، حيث يتم فيها تسييل الغاز الإسرائيلي المستورد، ثم يعاد تصديره إلى أوروبا.
ولم يصدر أي توضيح لمصلحة من سيكون التصدير، مصر أم إسرائيل؟ فلو كان لمصلحة إسرائيل، فإن جزءاً كبيراً من المزايا الاقتصادية المزعومة سوف يتبخر. أما لو كان تصدير تلك الكميات المهولة من الغاز، والتي سيتم استيرادها على مدار السنين العشر القادمة، سيتم لمصلحة مصر، فربما تمثل تلك الصفقة خطأً كبيراً، خاصة في هذا التوقيت، والذي أصبحت الأطراف مستوردة الغاز فيه هي التي تُملي شروطها، كونها في الجانب الأقوى من المعادلة.
في بداية هذا العام، نشرت الفايننشال تايمز تقريراً عن الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا، قالت فيه إن "روسيا رضخت لضغوط أوروبية واضطرت لتخفيض سعر الغاز الطبيعي الذي تصدره، كرد فعل لمنافسة شرسة من الولايات المتحدة الأميركية، وقطر، ومُصَدِّرين آخرين".
فلو كنا اتخذنا قراراً باستيراد الغاز الطبيعي لمدة عشر سنوات، بسعر تم تحديده الآن، دون الاتفاق على إعادة تصديره فوراً، أي أننا قررنا تحمل مخاطرة أن يكون لدينا مركز فائض Long position (بلغة أهل البنوك) من الغاز في مثل تلك الظروف من زيادة المعروض، وتصارع المصدرين على الأسواق، فربما يكون "الجون" الذي تحدث عنه بعضهم قد دخل في مرمانا نحن، ولن نفلح إذاً أبداً!
ثم أين ذهبت روايات اكتفاء مصر الذاتي، وتوجهها نحو تصدير الغاز الطبيعي، الذي سيدر علينا المليارات من الدولارات، بعد اكتشاف ما قالوا عنه أكبر حقل غاز عرفته البشرية، والذي يتوقع أن يبدأ إنتاجه في غضون أشهر قليلة؟ هل أتممنا بيعه قبل أن نتورط في اتفاق نلتزم بموجبه باستيراد تلك الكميات من الغاز؟
بعدها فاجأتنا الدولة، ممثلة في أعلى رموزها، بأن "الحكومة المصرية ليست طرفاً في الصفقة التي تم توقيعها بشأن استيراد إحدى الشركات الخاصة كميات من الغاز الطبيعى من إسرائيل".
أين ذهبت إذاً المكاسب الاقتصادية للدولة التي عُلّقَت لها الزينات، وأقيمت لها الاحتفالات؟ أم تراهم يتوقعون أن يعم الخير علينا جميعاً من صفقة تخص القطاع الخاص، على غرار ما حدث للشعب المصري من صفقات حسين سالم العملاقة السابقة ومن الصفقات التطبيعية التي أبرمتها عائلة عرفة مع أولاد العم؟ مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن المثالين المذكورين كانا لاتفاقات تصدير، لا استيراد، ولاحظ اتجاه حركة العملة الأجنبية من وإلى مصر فيهما، مقارنة بالاتفاق الأخير.
لكن الكارثة الكبرى كانت في ما تمت الإشارة إليه على استحياء، من مسؤولين على أعلى المستويات في الحكومة المصرية، من ربطٍ تم بين اتفاق الاستيراد هذا، وغرامات قضت بها مراكز إقليمية للتحكيم التجاري الدولي، وتقدر بأكثر من مليار دولار، ترفعها الفوائد لتتجاوز 1.5 مليار دولار، تدفعها مصر تعويضاً لإسرائيل، أو لشركات إسرائيلية المنشأ، بسبب عدم التزام مصر بالوفاء بالتزاماتها مع تلك الشركات.
ثم نفاجأ قبل يومين بإعلان رئيس الوزراء بأنهم "توصلوا لاتفاق لحل القضية" في إحدى تلك المشكلات، ولا أستبعد أن يتم الإعلان قريباً عن حل "كل قضايا التعويضات مع الشركات الإسرائيلية" بعد إقرار اتفاق الاستيراد العظيم، وهو ما يعني أن السعر الذي تم الاتفاق عليه في صفقة الغاز، يشمل علاوة تعوض الطرف الإسرائيلي عن المبالغ المحكوم بها لهم، مع حفظ ماء وجه حكومة أخفقت في أغلب قضايا التحكيم الدولي التي كانت طرفاً فيها، أمام شعبها.
دارت كل أحاديثهم حول الجانب الاقتصادي كما رأينا، ونسوا أو تناسوا أن علاقتنا مع الصهاينة لم تقم أبداً على حسابات مادية أو مكاسب تجارية ومع ذلك كانت حجتهم داحضة.
وفروا لمعاهدات السلام دعماً استراتيجياً في صورة اتفاقات اقتصادية تدوم سنوات وسنوات، وتربط اقتصادنا باقتصادهم في أحد أهم محاوره وهو الطاقة، وكانت كل دفوعهم باطلة.
وقّعوا اتفاقاً يزيد التعاون والتنسيق بين الدولتين، ويكلل تنسيقاً استخباراتياً، وأمنياً، وعسكرياً كثيراً ما حاولوا إنكاره، ولا عجب إذاً أن يعتبره نتنياهو عيداً لإسرائيل.
غيّروا كل ما نشأنا عليه من ثوابت، ومسحوا تاريخ نضال الآلاف من الشهداء بجرة قلم. عدَّلوا التشريعات القانونية، ومهدوا البنية التحتية ثم زعموا أنه اتفاق يخص القطاع الخاص. ذبحوا كل شهداء العرب من جديد، ثم احتفلوا بتسجيل "جون"، أي هدف.
لم تقم مصر بتوقيعها على هذا الاتفاق التاريخي بنشاط تطبيعي، أصبح معتاداً هذه الأيام، وإنما منحت إسرائيلَ شرعيةً جاهدت على مدار قرون لاكتسابها.
الاتفاق على شراء الغاز، هو اعتراف ضمني بحقوق إسرائيل في غاز البحر المتوسط، دون أدنى اعتبار لأي حقوق أو مصالح فلسطينية، لا يستطيع إنكارها أي طرف، ولا حتى الطرف الصهيوني نفسه.
هو اتفاق لا يقل في معناه وفي مداه عن اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمة لإسرائيل، والله يرحم كل شهدائنا الذين ماتوا دفاعاً عن الحق العربي.