صفقة على نار هادئة

14 اغسطس 2015
+ الخط -
يبدو أن هناك صفقة تُطبخ على نار هادئة في الشرق الأوسط. وليس من المبالغة القول إن الاتفاق النووي الذي أبرم مع إيران يتضمن بالفعل بنودا غير معلنة، تمثل جزءاً من هذه الصفقة، هذا فضلا عن الحراك الدبلوماسي الذي تعرفه المنطقة في أكثر من اتجاه، في أفق البحث عن تسويات ترتبط ببعضها بعضاً بشكل لا يخلو من دلالة. 
من هنا، فالمحادثات التي شهدتها الدوحة، أخيراً، والتي جمعت وزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا ودول الخليج، ربما تفتح الباب، قريباً، أمام حل متوافق عليه في سورية، يجنب الأخيرة، من جهة، خطر التقسيم بالنظر لتبعاته الخطيرة على استقرار المنطقة، ومن جهة أخرى، يضمن انتقالا للسلطة، ينهي الحرب الأهلية التي تعصف بالبلد منذ أربعة أعوام. يستقي هذا التوافق مبرراته مما يحدث على الأرض. فتنظيم "داعش" صار يشكل مصدر قلق كبير للقوى الإقليمية والدولية، وعلى الرغم من أن بعض هذه القوى راهن عليه بغاية مواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد، إلا أن إيغاله في أعمال القتل والترويع والإرهاب جعل هذه المراهنة أمام مأزق حقيقي، خصوصاً في ضوء التراجع الملحوظ لقوات الأسد المدعومة من حزب الله وإيران، مقابل انتصارات لافتة للمعارضة المسلحة، ويُخشى أن يفضي ذلك، في حالة سقوط مفاجئ وغير منتظر للنظام، إلى سيطرة التنظيمات المتطرفة على السلطة، وفي مقدمتها "داعش".
في هذا السياق، أصبح حلفاء الأسد يدركون أن بقاءه في السلطة يكاد يكون مستحيلاً مع فقدانه السيطرة على معظم التراب السوري. ولذلك، أصبحوا أكثر قرباً، من أي وقت مضى، من مواقف الولايات المتحدة وتركيا والسعودية التي تؤكد على إيجاد حل سياسي للأزمة، حتى لا تختلط الأوراق أكثر، وتعم الفوضى، ويؤثر ذلك على مصالحها الحيوية. يعني ذلك أن سورية أمام خيارين، إما تقسيمها على أساس طائفي بعد سقوط نظام الأسد، وفي هذه الحالة هناك احتمال كبير أن تسيطر "داعش" على الحكم، بالنظر لقدراتها التنظيمية والتعبوية والمالية، مستغلة حالة التفكك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في البلد، أو البحث عن مخرج سياسي يمر عبر رحيل الأسد وإطلاق مسار انتقالي للسلطة متوافق عليه بين القوى المعنية.
لكن نقطة الخلاف تظل هي مصير الأسد، ففي وقت لا زالت تتمسك به طهران وموسكو، على الأقل في الظاهر، باعتباره جزءاً من منظومة الحل المرتقب، تؤكد القوى الأخرى على ضرورة رحيله مع إمكانية بقاء جزء من رموز نظامه ضمن المرحلة الانتقالية. ويمكن القول إن الجميع باتوا قريبين من إيجاد تسوية ما بشأن هذه الشق الخلافي. فإيران، تدرك، بالتأكيد، أن الاتفاق النووي مع الغرب رتب عليها التزامات واضحة، من الصعب التملص منها، وخصوصاً مع استمرار المخاوف الخليجية من طموحاتها المذهبية والتوسعية في المنطقة. وعلى أساس ذلك، هي مطالبة بالحد من هذه الطموحات، وترشيد سياستها الإقليمية، حتى تحوز ثقة النظام الدولي الذي لا زالت بعض مكوناته تنظر لها بعين الريبة. ولا نبالغ إذا قلنا إن جزءاً من النخبة الإيرانية الحاكمة على الأقل، يدرك أن أيام الأسد في السلطة باتت معدودة، وأن الإنجاز الدبلوماسي الذي تم تحقيقه في فيينا لن ينتج امتداداته الإيجابية بالنسبة لطهران، إلا بتغيير موقفها إزاء الأزمة السورية؛ موقف يقطع، بشكل ما، مع دعمها غير المشروط نظام الأسد، وفي الوقت نفسه، العمل على تحقيق مكاسب ميدانية في ساحات القتال، تمكّنها من تأمين مواقع نفوذ في المناطق العلوية بعد سقوط النظام. علاوة على ذلك، لا يمكن إغفال تأثير المتغيرات الحاصلة في اليمن على استراتيجية إيران، فتراجع الحوثيين وقوات صالح وفقدانهم مناطق كثيرة أمام زحف المقاومة الشعبية، من شأنه أن يدفع صانع القرار الإيراني إلى تبني خيارات أكثر اعتدالا وبراغماتية، بخصوص ما يحدث في المنطقة.

الشيء نفسه بالنسبة لموسكو، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف طبيعة دورها في المنطقة. فهناك من يرى أن بوادر تحول في موقفها بدأت تلوح في الأفق، بالبحث، أولاً، عن مخرج مشرف للأسد، وإن لم يتم الإعلان عن ذلك حتى الآن. وثانياً، الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، بعد سقوط النظام. ويبدو أن التحرك الأخير للدبلوماسية الروسية في أكثر من اتجاه يشكل خطوة نحو تجاوز موقفها التقليدي الداعم بدون شرط بقاءَ الأسد في السلطة، وتبني موقف مغاير، ينسجم مع التحولات الحالية. في هذا الصدد، وعلى الرغم من تأكيد وزير الخارجية الروسي على هامش لقائه نظيره السعودي في موسكو أن "جنيف -1" لا تزال تمثل أرضية للتسوية في سورية، إلا أنه أضاف أن السوريين وحدهم من يقرر مستقبل بلادهم، بما في ذلك مصير الأسد وطريقة انتقال السلطة التي يجب أن تحافظ على مؤسسات الدولة.
يعني ذلك، بشكل ما، أن موسكو أصبحت أقرب إلى التخلي عن حليفها في دمشق، لكنها لا تريد أن تعيش الكابوس الليبي، مرة أخرى. ولذلك، هي مصرة على عدم التفريط بمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في سورية ما بعد الأسد، خصوصا في ما يتعلق بقاعدتها البحرية في مدينة طرطوس الساحلية، والتي تعتبر أهم قاعدة بالنسبة لأسطولها في منطقة المتوسط. كما أن تقاربها مع السعودية وباقي دول الخليج قد يفتح أمامها منفذا اقتصاديا مهما، يعوضها عن خسارة سورية إن حدث ذلك، وربما يكون الحديث الذي راج، أخيراً، عن شراء السعودية معدات عسكرية روسية متطورة، مؤشراً على تحول في موقف موسكو، فهي لا يمكن أن تضحي بمصالحها من أجل الأسد، خصوصاً وأن اقتصادها يعرف انكماشا ملحوظا في ظل انخفاض أسعار النفط والعقوبات الغربية المفروضة عليها، بسبب الأزمة الأوكرانية.
ينبئنا تاريخ الدبلوماسية الدولية أن الأخيرة تُضمر أكثر مما تُظهر، وما لا يَظهر تتكفل المصالح الكبرى بإظهاره في شكل تسويات تعبر، في النهاية، عن موازين القوى القائمة.