في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول عبد الله: "بدأت باستكشاف ميلي للموسيقى والغناء في المدرسة الابتدائية من خلال حصص الموسيقى وطابور الصباح. لكن شغفي المتزايد بآلة العود وتعلقي بها كان في سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، لأسباب كثيرة. كان شكل العود وصوته المميز يشداني أكثر من غيره من الآلات الموسيقية، كنت أتعلق به عندما أراه في أحد مشاهد الأفلام والتسجيلات القديمة.. ثم سنحت لي الفرصة لرؤية العود عن قرب مع جارنا مدرس العود في الكونسيرفتوار، كان جاراً وصديقاً يحب الغناء ويتعلم معه العزف. كما لفت انتباهي محل قديم لإصلاح الأعواد في حينا (محرم بك)، وفي المرحلة الثانوية انضممت إلى المسرح المدرسي، وسنحت لي فرصة غناء الألحان بمصاحبة عود الملحن السكندري محمد أنور، فزاد تعلقي بالآلة، وبدأت التعرف على الوسط الفني المسرحي والموسيقي في الإسكندرية من خلال قصور الثقافة، وخاصة قصر ثقافة الحرية، واكتشفت في نفسي ميلاً كبيراً للتلحين".
حديث طارق عبد الله عن شغفه بالعود، وحبه للغناء والموسيقى، دفعنا لنسأله عن المرة الأولى التي أمسك فيها بآلته الأثيرة ليتلقى أول درس، يقول: "استعرت عوداً من صديق اسمه أشرف عبود، وبدأت في التعلم بشكل ذاتي، محاولاً قدر الإمكان تقليد من أراهم من عازفي العود في الإسكندرية، ثم تعرفت بعدها على حازم شاهين في القاهرة، وكان وقتها طالباً في المعهد العالي للموسيقى العربية، وبدأنا نلتقي في الإسكندرية، وأفدت منه الكثير.. وأذكر أن أول عمل حفظته منه كان لونغا رياض السنباطي (الفرحفزا) الشهيرة".
كان لقاء طارق عبد الله بحازم شاهين فارقاً، فقد أقنعه الأخير بالانضمام إلى بيت العود الذي يديره العازف العراقي الشهير نصير شمة. يضيف طارق: "كنا وقتها قد أسسنا فرقة إسكندريلا الأولى، وقدمنا عدداً كبيراً من الحفلات المشتركة في الإسكندرية، فأخذت عن شاهين مقطوعات عديدة، منها "رقصة الأنامل" و"العصفور الطائر"، وسجل لي بقية المقطوعات والتمارين المعروفة وقتها في بيت العود. بالتوازي، عملت على مقطوعات الأستاذ عبده داغر. وبعد عام من التدريب، تقدمت لبيت العود ولم أدرس فيه سوى ثلاثة أشهر أو أقل، إذ هاجرت بعدها وأكملت الدراسة عن بعد معتمداً على التسجيلات والزيارات النصف سنوية وتخرجت من البيت في يناير/ كانون الثاني من عام 2005، بينما استمرت دراستي العملية مع عبده داغر، والراحل سعيد شرايبي، والموسيقي الإيراني وداريوش طلایي".
مع المسار العملي الفني، كانت لطارق عبد الله رحلة أكاديمية ثرية، ربما لا تتوفر لكثيرين من المشتغلين بالفن عموماً، وبالعزف على آلة العود خصوصاً. سألنا طارق عن المحطات الرئيسة لمساره الأكاديمي، من أين وكيف بدأ وإلى أي محطة وصل. يجيب: "تزامن البحث العلمي مع بداية اكتشافي للمدرسة الموسيقية والغنائية القديمة من خلال التسجيلات، وكان لمصطفى سعيد دور كبير في تعريفي بها، وسبب رئيس في عشقي لها. اهتممت بما يعرف بالوصلة المصرية، وقدمنا حفلاً كاملا في باريس عام 2007 مقسما إلى وصلات. لكن رحلة البحث بدأت بشكل نظامي عام 2007 في المدرسة الوطنية للموسيقى بفيلاربان (فرنسا)، ببحث تحت إشراف مستشرق فرنسي يعزف العود يدعى مارك لوبويت، وهو يمتلك مجموعة كبيرة من الأعواد القديمة، منها عود من القرن التاسع عشر لأعظم صناع مصر المعلم حنفي الكيال، الملقب بستراديفاريوس الشرق. كان محور البحث عن المدرسة الحديثة في فن العود ومدى ارتباطها بالمقام، وكيفية تعاملها مع القوالب القديمة كالبشرف والسماعي. وقدمت تحليلاً لنماذج من التسجيلات القديمة والحديثة".
يواصل طارق: "بعدها التحقت بكلية الآداب والفنون بجامعة ليون الثانية تخصص علوم موسيقية وحصلت على درجة الماجستير في عام 2009، عن رسالة ترجمة عنوانها (تطور البراعة في فن العود المصري خلال النصف الأول من القرن العشرين. دراسة تحليلية). استعنت خلالها بتسجيلات نادرة جداً، أمدني بها الباحث الفرنسي فريدريك لاغرانغ، ومن أهمها تسجيلات العازف المصري أمين بك المهدي، الذي لم أكن أعرفه من قبل، ولغيره من العازفين".
في عام 2010، حصل طارق عبد الله على منصب مدرّس وباحث متعاقد لمدة ثلاث سنوات، بعد مسابقة، مع الجامعة نفسها، مثلت البداية لمرحلة الدكتوراه. وفي العام نفسه، شارك في مؤتمر دولي في لبنان عنوانه "قرن من التسجيلات.. مواد للدراسة والتلقين"، والتقى خلاله بأهم الباحثين في العلوم الموسيقية، وعلم موسيقى الشعوب.
في هذا السياق، يقول: "في هذه المرحلة، أيضاً، بدأت التعاون مع مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية في بيروت، كما بدأت العلاقة مع الدكتور نداء أبو مراد الذي تعلمت منه الكثير، وساعدني في كافة مراحل دراستي الأكاديمية، وصولاً إلى مرحلة الدكتوراه التي ناقشتها في سبتمبر/ أيلول 2017، وقد شُرفت بترؤسه لجنة المناقشة. كان عنوان الأطروحة: فن العود المصري.. من علم الآلات الموسيقية إلى فنون الأداء.. تطور تقاليد الحذق على ضوء الأسطوانة ذات الـ78 لفة".
الرحلة العلمية والبحثية الثرية لطارق عبد الله، والتي جاءت كلها عبر مؤسسات أوروبية، وبمساندة وإشراف عدد من الباحثين الغربيين، حتمت علينا أن نسأله عن تقييمه لمعاهد تعليم العود في مصر والعالم العربي.
يجيب: "علينا أن نفرّق بين المعاهد الموسيقية التي يدرس فيها العود كأحد المواد العملية، أو كمادة تخصص كالمعهد العالي للموسيقى العربية، عما أسميه (مدارس البراعة العودية في الوطن العربي)، وهنا نتحدث عن تجربتين: الأولى هي ما يعرف اصطلاحاً بمدرسة عود بغداد التي أسسها محيي الدين حيدر، وأشرف عليها خلال الفترة بين عامي 1937 و1947، والتي ركزت على الجانب التقني المستوحى مباشرة من موسيقى العصر الرومانطيقي في أوروبا وما سبقها من إرهاصات. أما الثانية، فهي تجربة بيت العود العربي في القاهرة الذي استضافته وزارة الثقافة المصرية وكنت أحد خريجيه. هي مدارس تهتم بالجانب الثالث من التعليم في منهج الكندي المسمى (رياضة اليدين)، بمنأى عن النظريات والمقامات بمعناها الحقيقي، والإيقاع في حقيقته وفلسفته، إذ إنها تعنى فقط بجزء من الجانب العملي بشكله المستورد أو الهجين".
ينبه عبد الله إلى أن الثورة التي أحدثها حيدر في آلة العود كانت من خلال تقنيات آلة الفيولونسيل وموسيقاها. يقول: "صحيح أنه لم يخلط في عزفه ومؤلفاته بين التقاليد العثمانية والحداثة التي كان رائدها، لكنه ركّز بشكل أكبر على المنهجية والسلالم الغربية في عملية تعليم سلطان آلات الطرب. تخبرنا بعض المصادر أن المسؤولين في العراق استشعروا نواقص أسلوب حيدر التعليمي بعد مرور عشر سنوات على بدء التجربة وعملوا على استدراكها، وجلبوا العديد من الأساتذة، منهم مسعود جميل وعلي الدرويش وروحي الخماش".
يضيف: "أما مع بيت العود العربي، فأصبحت الصعوبة التقنية غاية في حد ذاتها، وليست وسيلة، وذلك على حساب الأسس التي قامت عليها هذه الموسيقى؛ حيث استبدل الطرب بالعجب، أي بالإبهار ومسرحة الأداء. الإشكالية الأخرى هي غياب مفهوم الارتجال بمعناه المقامي (التقسيم المرسل والموقع) واستبداله بما يشبه الفانتازيا المنفردة (سلالم الكروماتيك وغيرها، الآربيجات، التآلفات، إلخ). في النهاية أثبتت التجربة عجز تلك المدارس المرتبطة بالأسلوب الشخصي لمؤسسها منفردة في تأسيس عازفين متمكنين طبقا للتقاليد الموسيقية المتبعة منذ قرون".
في مقابل مدرسة عود بغداد وبيت العود في القاهرة، يسوق طارق عبد الله تجربة فردية فريدة من نوعها تتمثل في منزل الأستاذ عبده داغر، أو كما يسميها "مدرسة داغر وصومعته الفنية"، فبالرغم من أن المؤسسات الرسمية أدارت ظهرها له، إلا أنه أدى دوره على خير وجه في تعليم أسلوبه الشخصي عبر مؤلفاته لمئات من مريديه وعشاق فنه على مدار نصف قرن أو يزيد، من دون كلل أو ملل أو حتى مقابل.
كان من اللافت أن النموذج الذي يشيد به طارق عبد الله هو أيضا نموذج فردي، يتمثل في عازف كبير جعل من بيته مدرسة للتعليم من دون مقابل؛ ما يثير سؤالاً مشروعاً: إذا كانت معاهد التعليم تفتقد إلى المنهاج، فمن المسؤول عن وضع هذا المنهاج؟ وهل تملك معاهدنا كوادر قادرة على التدريس وفق منهاج علمي؟
يجيب طارق: "إذا كنت تقصد معاهد التعليم النظامي التي بدأت في مصر خلال عشرينيات القرن الماضي، فهذا سؤال مركب ومعقد، لكن يمكن أن أقول إن التعليم الموسيقي اقتصر على التلقين الشفاهي حتى نهايات القرن التاسع عشر، إلى أن بدا الاهتمام بالتدوين الموسيقي الغربي الذي مارسه وعلمه الشيخ علي القصبجي على سبيل المثال. كان على المتعلم دراسة عدد كبير من الموشحات والبشارف والسماعيات والقصائد والأدوار وحفظها، مع عدد من الأساتذة ومحاكاة أسلوبهم وصولاً إلى مرحلة النضج الفني. وقد حافظت حلب على تلك التقاليد حتى اليوم".
يواصل طارق: "عرفت مصر بعدها عصراً ذهبياً للتعليم الموسيقي النظامي الذي استلزم إدراج الكثير من المواد النظرية ومواد التخصص منذ منتصف العشرينيات، بلغ أوجه منتصف القرن الماضي، ثم بدأ رحلة تدهوره التي تأصلت مع رحيل الرعيل الأول من المدرسين الأكفاء من أنصار المدرسة القديمة، أمثال: عبد المنعم عرفة، وجورج ميشيل، وجمعة محمد علي، ومحمود كامل، وغيرهم. ونظريا، هناك عشرات الكتب التعليمية المخصصة لتعليم آلة العود، بعضها غير منشور، ومثلها من الرسائل المعنونة (تمارين مقترحة لآلة العود)، لكنها غير مستخدمة ولم يحظ معظمها بتقييم علمي لمعرفة نقاط القوة والضعف فيها من حيث المضمون والأهداف ومدى فعاليتها، لكن يبقى الأساس هو الأستاذ؛ إذ لا يمكن التعلم من خلال كتاب. ومع الأسف، فاليوم يمكننا بسهولة أن نلمس آثار القطيعة المتزايدة منذ الستينيات مع المدرسة القديمة التي قاربت على الاندثار. وبناءً على كل هذه المعطيات، يصبح من الواجب إعادة النظر في فلسفة التعليم الموسيقي في معاهدنا بالكامل، وهذا يحتاج إلى إرادة سياسية ثم نقاش عام حول تطوير مناهج تعليم الموسيقى العربية الشرقية ومضمونها وأهدافها".
تتسم الدراسات الموسيقية التي قدمها طارق عبد الله بعمق في التناول، وجدية في البحث، ومنها على سبيل المثال تلك الدراسة التي نشرتها مؤسسة التوثيق الموسيقي اللبنانية، بعنوان "محمد القصبجي: مجدد فن العود وأستاذ الأساتذة"، وذلك في الذكرى الخمسين لرحيل الموسيقي الكبير. وفيها، كما في غيرها مما كتب طارق عبد الله، يرى القارئ بوضوح أن الباحث يضع القصبجي في مكانة ربما لا يشاركه فيها أحد، فكان لا بد من أن نسأله: لماذا القصبجي؟
يجيب طارق: "الثورة التي أحدثها محمد القصبجي في فن العود منذ أولى تسجيلاته عام 1921 لا تقارن بكل من سبقه ولا بمعاصريه.. اهتم القصبجي بتفاصيل الصناعة والقياسات سعياً إلى الحصول على صوت أكثر فخامة وتوازن أكبر بين القرارات والجوابات. أعاد القصبجي إحياء العود السبعاوي بشكل جديد من خلال تسويات مختلفة لأوتاره، وزاد المدى النغمي للتقسيمة من ديوانين على الأكثر إلى ثلاثة دواوين أو يزيد، وطور تقنيات وأساليب المدرسة المصرية التي كان وريثها باقتدار؛ فهو رائد تطوير هذه المدرسة من الداخل. هذا لا ينكر تأثره لاحقا بالنزعة التغريبية في بعض تسجيلاته. كما أنه كان أستاذاً لأهم عازفي العصر، وعلى رأسهم رياض السنباطي الذي كان يحرص على شراء أسطواناته ومحاكاة تقاسيمه. ولم يقتصر تأثير القصبجي على العازفين المصريين وحدهم، بل امتد شرقاً وغرباً وقلده كثيرون".
لم يكن ممكناً أن ينتهي هذا اللقاء من دون أن نسأل طارق عبد الله عن نشاطه الفني، وآخر مشاريعه مع آلته الأثيرة. يقول: "قدمت عروضاً وحفلات عزف منفرد في بلدان كثيرة، وقمت بتدريس الآلة في الجزائر وفرنسا وسلطنة عمان وألمانيا.. وتواصلت مع الأستاذ القدير عادل شمس الدين، عازف الإيقاع، في عام 2013، وعرضت عليه التعاون في إطار مشروع (وصلة)، وكانت نقلة حقيقية في حياتي الفنية. تضمن ألبوم وصلة أعمالاً لعل أقدمها هو (واللي جاي)، الذي يعود إلى عام 2003، وعزفته في مشروع تخرجي من بيت العود، أما أحدثها فكان (وصلتنا)، الذي انتهيت منه بتسجيل الأسطوانة عام 2014".
يضيف عبد الله: "وخلال السنوات الست الماضية، قدمت مع الأستاذ عادل عروضاً فنية في خمس عشرة دولة، منها أميركا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وسويسرا وألمانيا والسويد والنرويج وبلجيكا وبولندا والتشيك والمجر".