عالقون في القوانين... تونس نسيتهم وإيطاليا ظلمتهم (3/7)

فيتوريا
D8A6CEA0-1993-437F-8736-75AB58052F84
وليد التليلي
صحافي تونسي. مدير مكتب تونس لموقع وصحيفة "العربي الجديد".
07 مارس 2018
60E50109-0888-4C89-B9AE-C42D60FA9161
+ الخط -

بعيداً عن مراكز الإيواء وشوارع بعض المدن الإيطالية، يستقرّ تونسيون من المهاجرين السريين ومن هؤلاء الشرعيين كذلك في عدد من المناطق. خلال رحلته، حاول "العربي الجديد" التعرّف على أوضاع هؤلاء ومشكلاتهم. إليكم الحلقة الثالثة من ملف "السجن الأبيض المتوسط".


إلى أين يذهب التونسيون الذين يسعفهم الحظ ويصلون إلى سواحل إيطاليا البعيدة عن جزيرة لامبيدوزا؟ ما هي وجهاتهم إذا أفلتوا من شباك الشرطة الإيطالية؟ وماذا يعملون وكيف يعيشون؟ بعض من أسئلة تُطرح وسط زحمة الملاجئ وأعداد المفقودين والمسجونين وغيرها من أرقام، بالإضافة إلى المعارك السياسية حول ملف المهاجرين التي تكثر في إيطاليا. وكان لا بدّ لنا أن نطرق الأبواب الصحيحة للحصول على إجابات وافية، إذ إنّ النقابيين وناشطي المجتمع المدني هم أكثر القادرين على الإجابة عن أسئلة مماثلة، لجأنا إليهم لنصل إلى فيتوريا في محافظة راغوزا.

يوضح سامي رحومة وهو تونسي يعيش في إيطاليا منذ ربع قرن تقريباً، وعضو في "الكونفدرالية العامة الإيطالية للشغل"، لـ"العربي الجديد"، أنّ "فيتوريا هي المدينة الإيطالية التي تسجّل الكثافة الأعلى في عدد التونسيين، إذ تضمّ على أقل تقدير 12 ألف تونسي يعملون وفق عقود، من دون احتساب المهاجرين السريّين الذين يمرون في المدينة. فهي من جهة منطقة عبور، وكذلك فإنّ كثيرين يتوجّهون إليها لوجود أقرباء لهم فيها، وهي تتيح العمل في الزراعة من دون توفّر أوراق رسمية". يضيف رحومة أنّ "عدد المهاجرين يتراوح ما بين ثلاثة آلاف وأربعة، في حين أنّ التونسيين يمثّلون نحو 30 في المائة من نسبة اليد العاملة في القطاع الزراعي هناك، وهذا ما يعني الأغلبية الكبرى من بين كلّ الجنسيات، الرومانية والألبانية والمغربية والمصرية".

نتوجّه إلى فيتوريا. هناك، يشعر المرء وكأنّه في واحدة من مدن تونس. الحلاقون والجزّارون والأزقة والكتابات بالعربية والتونسيون الموزّعون في الشوارع... وفي المساء، تتحوّل واحدة من ساحات المدينة إلى ملتقى للتونسيين، فترى عشرات هنا وعشرات هناك، وتتشكّل حلقات لا تسمع فيها غير اللهجة التونسية، لهجة الساحل في الغالب.

ويقول رحومة إنّ "فضل التونسيين كبير على مدينة فيتوريا، إذ إنّهم سبب رئيسي في نموّها الزراعي منذ عقود. هم بنوها وأقاموا مجدها الزراعي المعروف في إيطاليا، خصوصاً تقنية الدفيئات الزراعية التي تنتج الباكورات". ويرافقنا في جولتنا.

"هذا ما ننتجه هنا" (العربي الجديد)

في أحد أسواق البيع بالجملة، منتوجات زراعية وشاحنات عملاقة تغادر السوق ووجهتها مناطق مختلفة في إيطاليا. وهناك، تونسيون يعملون. يبدو رحومة وكأنّه يتجوّل في تونس، فيلقي التحية على الجميع و يدخل بسهولة إلى كل مكان. كيفما وجّهت نظرك في فيتوريا، تطالعك دفيئات زراعية. هي بالمئات أو بالأحرى بالآلاف.

يصطحبنا رحومة إلى واحدة من ضيع المنطقة. تخال نفسك في باجة أو جندوبة. يستقبلنا محمود وكأنّه صاحب الضيعة، ومعه ابنه أمان الله الذي يلهو داخل الدفيئات الزراعية. ومحمود من سيدي علوان من معتمدية باجة الجنوبية، وقد وصل إلى إيطاليا في تسعينيات القرن الماضي، عندما كان في السادسة عشرة من عمره. يقول: "انقطعت عن الدراسة وعملت في المجال الزراعي. وقد قضيت أكثر من 25 عاماً في المجال نفسه وفي المنطقة نفسها تقريباً". ويؤكد محمود أنّ "فيتوريا الإيطالية تضمّ آلاف التونسيين، لكنّ كثيرين منهم هاجروا بعدما جرى ترحيلهم. وعلى الرغم من أنّها تضمّ نسبة مهمة من اليد العاملة التونسية، فإنّ ثمّة نقصاً واضحاً في اليد المتخصصة في العمل الزراعي". ويلفت إلى أنّ "لا جهات رسمية تدافع عن مصالح التونسيين في المهجر، على الرغم من أنّ سكان المدينة الإيطاليين يعترفون بالجميل للتونسيين ويحبّونهم. كذلك فإنّ اليد العاملة التونسية غير مكلفة".

بالنسبة إلى محمود، فإنّ "التونسيين هم وراء النهوض بالمنطقة زراعياً"، مشيراً إلى أنّ "صاحب الضيعة يعدّني بمثابة ابنه نظراً إلى السنوات الطويلة التي قضيتها معه في العمل. وأنا أشتغل مع ثمانية من أشقائي عند صاحب الضيعة نفسه، إلى جانب عدد لا بأس به من أقربائي وأصهري. وجلّهم يعملون في مجال الدفيئات الزراعية التي ساهموا في ازدهارها". إلى ذلك، يدعو محمود "الحكومة التونسية إلى الالتفات إلى التونسيين والتنسيق مع الحكومة الإيطالية لضمان حقوقهم، والتفكير خصوصاً في وزارة للهجرة".

في طريقنا إلى بقعة أخرى، يلفت رحومة إلى أنّ "محمود هو صاحب الكلمة الفصل في تلك الضيعة، إذ إنّ المالك الإيطالي يثق به بصورة كبيرة وقد منحه حرية اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤون الضيعة. في الحقيقة، هو الذي يقف وراء تطوّرها اللافت على مدى السنوات الماضية".


من جهة أخرى، ثمّة وجه آخر لفيتوريا، إذ إنّ ثمّة تونسيين ظلمتهم إيطاليا ونسيتهم تونس، وهم عالقون في أماكن بعيدة لا ينتبه إليها أحد. ونسلك تلك الطرق الوعرة التي تزداد سوءاً في فصل الشتاء. بعد لف ودوران، نصل إلى ما يشبه البيت في ضيعة أخرى. هو "بيت عزّاب"، هكذا يطلق عليه التونسيون. في ذلك اليوم، لم يكن خميّس يعمل، إذ كان مريضاً ولازم البيت في إجازة غير مدفوعة الأجر بالتأكيد. بغضب وأسف كبيرَين، يروي خميّس وهو في السادسة والثلاثين من عمره، مأساته. يقول إنّه "من المهديّة، وقد مرّت عشرة أعوام على وصولي إلى إيطاليا عن طريق تأشيرة سياحية. في ذلك الحين، حصلت على عقد عمل موسمي، ورحت أجدّده سنوياً بحكم عملي في المجال الزراعي". ويشرح أنّ "المالك الإيطالي يبيعنا عقد العمل أو يشغّلنا سرّاً ويستغلنا بأجرة زهيدة لقاء نحو 20 يورو يومياً. والمهاجر مجبر على تجديد عقد العمل سنوياً حتى يستحصل على أوراق الإقامة". يضيف أنّ "ثمّة آلافاً من العمال في مثل وضعي، لأنّ إيطاليا بدأت في عام 2013 تطبّق قوانين جديدة".

ويخبر خميّس أنّه كان متوجّهاً إلى تونس في شهر يونيو/ حزيران من عام 2015 ليتزوّج بعدما أعدّ كلّ شيء، لكنّ شرطياً إيطالياً نبّهه إلى أنّ أوراقه منتهية الصلاحية. فعاد أدراجه لأن ذهابه إلى تونس من شأنه أن يمنعه نهائياً من العودة إلى إيطاليا وفقدان كل حقوقه. ويتابع: "منذ ذلك الحين، أنا بمثابة شخص مسجون، عالق بين تونس وإيطاليا. أشتري عقد العمل الوهمي لقاء 1500 يورو وأعمل لقاء أجرة زهيدة لأنّ صاحب العمل يستغلّ وضعنا الهش". ويوضح أنّ "ثمّة قوانين جديدة تفرض حصولنا على 102 يوم عمل مع مشغّل واحد، وهي بالتأكيد لا تنطبق علينا. وهو ما يعني أنّني عالق منذ عام 2015 في هذه الوضع مثل آلاف التونسيين الآخرين". لكنّه ما زال يأمل بأن "تنظر السلطات التونسية إلى مثل أوضاعنا وتسعى إلى إيجاد حلول سريعة لها".

ويقول النقابي رحومة هنا، إنّ "خميّس محظوظ نسبياً لأنّ الشرطي الإيطالي مكّنه من مغادرة الميناء والعودة إلى إيطاليا، في حين أنّ آخرين يرحّلون إلى تونس ويعجزون عن العودة إلى إيطاليا. وهذا يقوّض سنوات طويلة من الحقوق ويكشف أنّ العمالة الرومانية التي لا تحتاج إلى وثائق إقامة بحكم أنّها أوروبية، تزاحم اليد العاملة التونسية وتمكّن المالك الإيطالي من استغلال الأخيرة".

وفيتوريا تبدو كأنّها لم تبح بكلّ أسرارها، فهي ما زالت تخفي أوجهاً أخرى من المأساة التونسية. في السياق، وفي منزل شبه متهالك، يستقبلنا حمودة على كرسيّ متحرّك. هو من المهدية وفي الثالثة والخمسين من عمره، يقول إنّ "29 عاماً مضت على وصولي إلى إيطاليا. كنت أعمل في المجال الزراعي وأوضاعي قانونية منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ ليست لديّ أيّ مشكلات سابقة مع السلطات أو أيّ جهة أخرى". لكنّه تعرّض إلى حادث وبُترت ساقه، "ففقدت أوراق إقامتي بحكم أنّني لا أعمل، وأنا من دون راتب جارٍ منذ عام 2012، علماً أنّني تمكّنت من الحصول على تعويض عن الحادث في عام 2015". يضيف حمودة أنّ "جميع أفراد عائلتي يقطنون في تونس، لا سيّما زوجتي وأبنائي، في حين أعيش في إيطاليا على المعونات وبعض مساعدات أتلقاها من بعض الأصدقاء والجيران".

ويؤكد رحومة أنّ "مئات التونسيين يعانون من أوضاع صعبة وهم من دون حقوق، على الرغم من أنّهم عملوا لفترات طويلة في إيطاليا. فهم يعانون من أمراض مهنية عدّة، والقوانين الإيطالية لا تحميهم إذا لم تكن لديهم إقامة دائمة". ويشير إلى أنّ "عقود العمل في القطاع الزراعي موسمية وتجدد سنوياً، وهو ما يفتح باب التلاعب والاستغلال".

"هذه هي حالي اليوم" (العربي الجديد)

وفي آخر محطاتنا، نتوجّه إلى مبنى كبير تتبع ملكيته الكنيسة. في غرفة مليئة بالأدوية، يستقبلنا عبد العزيز بيصار وهو في السابعة والستين من عمره، ومن تونس العاصمة. يخبر أنّه وصل إلى إيطاليا في سبعينيات القرن الماضي، "وقضيت جلّ شبابي هنا. عملت في الزراعة والتجارة والبناء وغيرها من الأشغال اليومية، وأنا اليوم من دون أجر". يضيف أنّه "لولا مبادرة أحد الإيطاليين وعمله على تسوية أوراق إقامتي، لبقيت في الوضع نفسه". صحيح أنّ وضعه سوّي لجهة الإقامة، غير أنّه لم يُسوَّ لجهة الجراية. وإذ يشير عبد العزيز إلى إنّه يعاني من أمراض عدّة، يؤكد أنّه لا يحصل على بدل تقاعد ولا على جراية، قائلاً إنّ "كاهناً من الكنيسة الإيطالية ساعدني وأمّن لي بيتاً تابعاً للكنيسة يؤويني، بالإضافة إلى أدوية لأمراضي". يُذكر أنّه ليس لديه أهل ولا عائلة في تونس.


في سياق متصل، يؤكد رحومة أنّ "هجرة التونسيين إلى إيطاليا ليست جديدة، ولا مأساتهم جديدة". وهو كان قد عاين بنفسه جثث غرقى في عامَي 2008 و2009، وشهد على غرق 16 مهاجراً في عام 2003. والإيطاليون يحيون ذكرى تلك الحادثة في شهر سبتمبر/ أيلول من كل عام، فيضعون أكاليل الزهر في بلدة سكولييتي الساحلية. بالنسبة إلى رحومة فإنّ "التونسيين مظلومون، وهذه الحالات التي عاينّاها ليست إلا الشجرة التي تخفي الغابة". وإذ يقول إنّ القوانين الإيطالية تقسو عليهم، يدعو إلى "مراجعة الاتفاقيات بين تونس وإيطاليا، لأنّها لا تظلم المهاجرين السريين فحسب، بل كل من قضى عشرات السنين في العمل بطريقة شرعية في إيطاليا". ويلفت إلى أنّ "ثمّة تفاصيل مثل تبادل المعلومات بين صندوقَي التقاعد في تونس وإيطاليا عطلت مصالح عدد كبير من العائلات التونسية وحركتهم".

ذات صلة

الصورة
البنزرتي طالب الاتحاد تحفيز اللاعبين مزدوجي الجنسية (الاتحاد التونسي/العربي الجديد)

رياضة

حقق المدير الفني للمنتخب التونسي فوزي البنزرتي بداية جيدة مع كتيبة "نسور قرطاج"، بعدما حقق فوزين متتاليين، في مستهل تجربته الرابعة مع الفريق.

الصورة

مجتمع

أعلنت السلطات التونسية، اليوم الاثنين، عن انتشال 12 جثة لمهاجرين تونسيين بعد غرق مركب في سواحل مدينة جربة جنوب شرق البلاد، من بينهم نساء وقصّر
الصورة
مسيرة احتجاجية في تونس للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، 25 يوليو 2024 (العربي الجديد)

سياسة

طالبت عائلات المعتقلين السياسيين في تونس بإطلاق سراحهم بعد مضي سنة ونصف سنة على سجنهم، وذلك خلال مسيرة احتجاجية انطلقت وسط العاصمة.
الصورة
مقبرة جماعية في منطقة الشويريف بطرابلس، 22 مارس 2024 (الأناضول)

مجتمع

أعلن المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك، الثلاثاء، أن مكتبه يتابع تقارير عن اكتشاف مقبرة جماعية في الصحراء على الحدود الليبية التونسية.
المساهمون