عبد الباسط الساروت وحيداً

19 مايو 2014

عبد الباسط الساروت

+ الخط -

فازت فرنسا بكأس العالم في كرة القدم لسنة 1998، وبدأ الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب بطرح لاعبي الفريق نجوماً أساسيين. وأضحى الشعار "زيدان رئيساً"، منتشراً كالنار في الهشيم، واضعاً في مقدمة المشهد الوطني شخصية اللاعب الفرنسي جزائري الأصل، زين الدين زيدان. واعتبر المراقبون أن الانتصار والفرح الشعبي العارم الذي تلاه، إضافة إلى كونه عنصراً جامعاً لمجمل الفرنسيين، على مختلف أصولهم الإثنية أو الاقتصادية، فهو تعبير عن تطلعات فئاتٍ واسعةٍ من الشباب المهمّش الذي وجد في غلبة اللاعبين من أصول أجنبية تشجيعاً كبيراً للاندماج، والأمل في مستقبل أفضل.
في ظل هذه الفورة الشعبية والإعلامية، بات لاعبو الفريق نجوماً أساسيين إعلامياً، ليس في برامج الرياضة والمنوعات فحسب، بل في البرامج الحوارية، ذات الطابع السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي. وأضحى مطلوباً من لاعبٍ أحب الكرة والساحة الخضراء أن يدلي بدلوه في قضايا المجتمع والسياسة والأدب. فبمجرد أنه نجمٌ كرويٌ، أتى بكأس العالم مع رفاقه، فعليه أن يكون كإناء الحمام، يملك صدىً لكل حديث، ويستطيع خوض غمار ما يُعرض من دون أن يرفّ له جفن، أو تتعثّر الكلمة في فمه. وبدا واضحاً من متابعة ما يهرف به هؤلاء "الأبطال" بأنهم ضعيفو الحيلة والحجة، في المحادثات السطحية والمعمّقة، وبأنهم فقيرو المفردات، لغةً ومعنى. ولكن مجرد خروجهم على الجمهور كان كافياً ليؤجج مشاعر نشوة الانتصار الكروي/الوطني.


ظاهرة اعتبرها المتفائلون من نقّاد هذا "التقديس" بأنها مؤقتة وعابرة وآيلة للزوال، إلا أنها طالت، وأضحى اللاهثون وراء الكرة في المستطيل الأخضر، أصحاب الأولوية في تحليل الأحداث السياسية والتقلبات الاقتصادية والتشنجات الاجتماعية والتغيرات المناخية، حتى أنهم أضحوا مرجعيات ذات وزن في تفسير الأحلام. وصار على صاحب الحد الأدنى من الوعي، ومن الثقافة، أن يتأقلم مع الإشكاليات المستحدثة من لاعبي الكرة، أو أن يؤقلم خطابه الثقافوي مع مصطلحات جديدة، طُرحت في الأسواق عبر أقدام، عفواً، أفواه اللاعبين. وقد تنبّه علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا إلى خطر تطوّر هذا التيار الجارف، وكتبوا فيه ما أفاد كثيراً في تجنب آثاره السلبية على جيل بأكمله. وتقهقرت هيستيريا كأس العالم، وتقهقر معها نجومها إلا القلّة ممن استطاع، في المقابل، أن يطوّر خطاباً اجتماعياً مؤثراً، يتعلق في عملية الاندماج ومحاربة العنصرية.
عبد الباسط الساروت، حارس منتخب سورية لكرة القدم الشاب، ومُنشد المظاهرات السلمية، إلى جانب الممثلة فدوى سليمان، وفيما بعد، منفرداً ومجيشاً الآلاف على الأرض والملايين على الشاشة، قبل أن يتحوّل رغماً عنه كما سرده فيلم "العودة إلى حمص" بكل روعة، إلى العمل العسكري، ويصبح قيادياً في المنطقة القديمة من هذه المدينة الشهيدة. الساروت عقد حلقات الغناء والرقص، غنى للمخرج الشهيد باسل شحادة، صرخ بأعلى صوته متألماً، بأنه لا يريد إلا إطعام الأطفال، وإخراج العائلات من الحصار، سعى إلى جلب الطحين للمدنيين، ففقد شركاءه في القتال. لم يطرح مشروعاً سياسياً، ولم يتبنَ خطاً أيدولوجيا إلا ما أملته عليه الفطرة الشعبية البسيطة، وما تحمله من أبعاد روحية متجذّرة. مجمل ما صدر عنه من كلام كان على شكل أهازيج شعبية، تحمل تبسيطاً كلامياً لموقف سياسي وطني جامع. إضافة إلى كثير من ألم الشعور بالنسيان وبالإهمال وبالفقدان. جرعات متكررة من الحنين إلى الأرض والمدينة والأم، تحيط بها هالة الإيمان الصادق البسيط، من دون التزحلق في دهاليز الخطاب الديني الذي بات، من فرط تكراره واستغلاله، ممجوجاً ومنفّراً.
وبعد مرور أكثر من سنتين على حصار المدينة الذي كان الساروت الشاب، لاعب الكرة في نادي حمص الأول "الكرامة"، أحد رموزه، وبعد أن كتب كثيرون المعلّقات بشجاعته وبطهارته وبإقدامه وبإنجازه، خرج البطل الشعبي من حمص، مع مقاتلين آخرين ضمن صفقة بين الجبهة الإسلامية والحكومة الإيرانية. إثر ذلك، عرضت صفحات الإنترنت شريطاً مصوراً له يوجه من خلاله كلاماً معسولاً يُقارب طلب الانتساب، إلى فصيلين متطرفين، يلوّثان المشهد المعارض السوري. فاستشاط جزء مهم من "مريديه" غضباً، وخصوصاً من أبدى إعجاباً نخبوياً بمساره. وكأنما هو تشي غيفارا الذي نظّر وقاد وحارب، وإذ به ينقلب على عقيدته الثورية، المتخيّلة في أذهان النخبة المتثاقفة.
وعلى الرغم من أن الشريط غلب عليه طابع التمثيل والتصنّع والتردد، والبحث عن الكلمات ذات البعد الديني، أكثر منه التعبير الوجداني الذي ميّز أداء الساروت دائماً، إلا أن الصدمة، ولو استندت على صدقيةٍ تامة لما ورد، تبقى غير مبررة. فالساروت لم يخن من خانوه، ومن تخلوا عنه، ومن استعملوا اسمه. الساروت صادقٌ في المشاعر، و"جاهلٌ" في التعبير، ويقول بصريح العبارة إنه مجرّد لاعب "فوتبول". لم يكذب الساروت بلجوئه إلى التطرف والمتطرفين، ترجم بشكل منطقي مآلات ثورة بريئة المنبت، تكالبت عليها أيدٍ ملوّثة، أو عقول مشوشة. واستنكف عن الانخراط العملي في تأطيرها فكراً من ينظّر ويعطيها الدروس عن بعد. ستكشف الأيام خلفيات ما صدح به الساروت، متلعثماً أو مُلقّناً أو مقتنعاً. ويبقى الساروت الحارس البسيط لمرمى الكرامة المفقودة.

 

كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا
سلام الكواكبي
كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا