"لن يتكرّر أبداً"
قليلة الدراسات التي تراقب تزايد عدد اليهود الإسرائيليين المهاجرين عكسيّاً باتجاه أوروبا، وخصوصاً إلى ألمانيا التي سبق أن كانت أرض استقبال لليهود الهاربين من الاتحاد السوفييتي بين الثورة البلشفية سنة 1917 والصعود السياسي والعسكري للحركة النازية سنة 1933. وقد مثّلت العاصمة برلين في هذه المرحلة مسرحاً مزدهراً لنهضة ثقافية يهودية يستعيدها اليوم اليهود الهاربون من إسرائيل. ويأتي هروبهم هذا لأسباب متعدّدة، أهمها ارتفاع مستويات التطرّف الديني والسياسي، إضافة إلى شعور متزايد لدى اليهود العلمانيين بأنهم مشاركون في عملية إعادة إنتاج الهولوكوست الذي عاشه أجدادهم بحقّ شعوب أخرى سواهم. وظهرت عديدٌ من الكتابات الجادّة لأفراد مثقفين من هذه الفئة المهاجرة الجديدة، تستعرض بنقد شديد الموقف الألماني من إسرائيل، خصوصاً في الأشهر الأخيرة التي تميّزت بمواقف رسمية للدولة الألمانية في الوقوف إلى جانب السياسة العدوانية لبنيامين نتنياهو ضد الشعب الفلسطيني، بحيث أصبحت العلاقة مع إسرائيل واليهود جزءاً من الهوية السياسية للدولة الألمانية، حتى وصل الأمر إلى أن تُطلق المستشارة في حينها، أنجيلا ميركل، في عام 2008 عبارتها "أمن إسرائيل قضية دولة في ألمانيا". ويعتبر أنصار هذا التوجّه أن النشاط المؤيد لإسرائيل ساهم كثيراً في تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية على الساحة الدولية، وضمان احترامها. وانعكس هذا على زيادة الفجوة بين النخبة السياسية المؤيدة لإسرائيل، مهما اقترفت، والشرائح المجتمعية المؤيدة بتزايد عمودي وانتشار أفقي لحقوق الشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من هذه الفجوة، من الممكن أن يُترجم هذا أحياناً بتخلي بعض المثقفين الألمان عن الدعم الأعمى للسياسات الإسرائيلية مهما عَنُفَت بعد أن كانوا من أشد أنصارها. ومن كبار الكتّاب الذين وعوا مبكّراً الاختطاف الإسرائيلي السياسة الألمانية، يأتي المثال الأوضح لدى غونتر غراس (1927 ـ 2015) الحائز جائزة نوبل للآداب سنة 1999. والمجتمع يأخذ مسافة واضحة من الدعم التلقائي لإسرائيل.
ولدى حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، اليميني المتطرّف الصاعد والمتقدّم بسرعة نحو واجهة العمل السياسي الشرعي، قاعدة انتخابية تنتشر فيها معاداة السامية، لكونه الوريث الشرعي للتوجّهات النازية. ولكن أعضاء هذا الحزب، وخصوصاً قياداته، يعبّرون، في التصريحات والممارسات السياسية، عن تأييدهم القوي السياسات الإسرائيلية. وهم في ذلك، يُعبّرون، بطريقة ملتوية، عن عدائهم للعرب والمسلمين، متهمين إياهم، وخصوصاً السوريين الواصلين منذ 2015، بمعاداة السامية.
إذاً، يسود في ألمانيا، كما في غيرها من الدول الغربية، ولكن بنسبٍ متفاوتة، خلطٌ متعمّدٌ بين معاداة الصهيونية والسياسات الإسرائيلية من جهة، ومعاداة السامية من جهة أخرى. ويظهر في الخطاب الرسمي التنديدي بكل توجّه نقدي للسياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويتجسّد هذا الخلط أكثر ما يتجسّد في مسألة معالجة نشاطات الفرع الألماني لحركة مقاطعة وسحب الاستثمارات وتنفيذ العقوبات على إسرائيل (BDS)، التي أصبحت مسألة تأييدها أو معارضتها مسألة هوية وضمير بالنسبة إلى معارضيها، ما يوضّح حدود النقد الممكن للسياسات الإسرائيلية. وحيث إن كل صوت ناقد لهذه السياسات، ولو كان صاحبه يهودياً، أصبح اليوم مكتوماً في ألمانيا، حيث يُشتبه في أنه معادٍ للسامية، وتسهُل إدانته، إن لم يكن قضائيّاً فعلى الأقل إعلامياً. وبالتالي، يمنع هذا الخلط المتعمّد أي نوع من النقاش البناء والعقلاني.
كل صوت ناقد للسياسات الإسرائيلية، ولو يهودياً، أصبح اليوم مكتوماً في ألمانيا
الحقبة التاريخية التي تلت تحرير ألمانيا من النازية وانقسامها إلى دولتين، غربية تدور في فلك حلف شمال الأطلسي وشرقية تدور في فلك حلف وارسو، عرفت مواقف متناقضة بخصوص حقوق الشعب الفلسطيني من كلتا الدولتين. فألمانيا الغربية تبنّت موقفاً داعماً لإسرائيل، متأثّرة بمسؤولية تاريخية عن المحرقة. أما الشرقية، والتزاماً بالخط السوفييتي، فقد امتازت تصريحاتها ونشاطاتها "المعادية للإمبريالية" بالوقوف خطابيّاً واستخباراتيّاً وسياسياً إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية. ولقد انعكس هذا الموقف على أحزاب اليسار في القسم الغربي، وتعزّز بعد حرب الأيام الستة سنة 1967، حيث وضح موقف اليسار الألماني الغربي إلى جانب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني عن قناعة أخلاقية، وليس عن موقف إيديولوجي. وبعد توحيد الألمانيّتين، تطرّف الشرقيون نحو مزيد من العنصرية تجاه الأجانب، ردّة فعل على خطابٍ سابقٍ تبريريٍّ اقتصاديّاً بحجّة التضامن مع الشعوب الفقيرة. كذلك برز عداؤهم للقضية الفلسطينية ردّة فعل أيضاً على استغلال المنظومة السابقة للقضية.
في ندوة دُعيتُ إليها، عقدتها منظمة مدنية ألمانية تحت عنوان Never again (لن يتكرّر الأمر مرّة أخرى أبداً)، هدف المنظمون إلى التركيز على ماضٍ مُخجل، تبريراً لحاضر متخاذل مرتبط حصراً بمسألة الهولوكوست. وعندما شعرتُ بأن الأمر يحصر الانتهاك الإنساني بمجموعة دينية دون سواها، اختتمت اللقاء بالقول: في الطرف الآخر من المتوسّط، هناك يوميّاً Again لا تعنيكم على ما يبدو، استبدادٌ في سورية، واستعمارٌ في فلسطين، هذا عدا ما جرى ويجري في أماكن عديدة من العالم تدفعكم عقدة الذنب إلى حجب النظر إليه.