عثرات الديمقراطية أم محنة السلطوية؟
من الطبيعي أن تنتاب نخبة من المثقفين الإصلاحيين العرب هواجس تجاه الأزمة السياسية التي تمرّ بها تونس، جرّاء الخلافات الحالية بين أقطاب المعادلة السياسية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة انتصاراً لخصوم الديمقراطية وأبناء "الدولة الأمنية" و"البوليسية"، الذين يتربّصون بأي تجربة ديمقراطية صاعدة، وكأنّها عدو لهم، يفرحون بأي انتكاسة تمرّ بها.
لم يقل أحدّ أنّ الديمقراطية وصفة سحرية، وهي ليست أيضاً مجرّد انتخابات ولعبة سياسية، بل هي ثقافة يومية، وقواعد إنسانية تقوم على قيم سيادة القانون والمواطنة والقبول بالتعدّدية، والقبول بالأساليب السلمية في التفاوض والحوار لحل المشكلات، بديلاً عن الحلول الدموية أو الأمنية. هي إعلاء لقيمة الإنسان وكرامته وحريته وحقوقه قبل كل شيء، فهي جوهر حقّه في تقرير المصير، عبر المبدأ المعروف "الأمّة مصدر السلطات" تقرّر من يحكمها.
لن تأتي الديمقراطية دفعة واحدة، وليست كبسولةً يتناولها الإنسان ليلاً، فيصبح ديمقراطياً في الصباح، لكن شتان بين هذا الوعد الديمقراطي والوعد الأمني المطروح في الاتجاه المقابل الذي يقوم ابتداءً على "حيونة الإنسان"، على حدّ وصف ممدوح عدوان، ولا نجد أصلاً للمقارنة بين الإنسان الذي يمتلك حريته في الاختيار والمسؤولية عن ذلك والمخلوق المرعوب الذي أنتجته الأنظمة القمعية الدموية.
لا أفهم دلالات هذا التربّص بالديمقراطية من نفر من الإعلاميين أو أشباه المثقفين الذين ينتظرون بفارغ الصبر أي أزمةٍ تمرّ بها التجربة الاستثنائية التونسية في العالم العربي، لماذا لا ننظر إلى الجهة المقابلة؛ أي السلطوية وما أنتجته في كل الدول العربية اليوم؟ إذا كانت هنالك عثرة في طريق التجربة التونسية، فما هي حال تلك الأنظمة، وإلى ماذا وصلت؟
الملايين المشرّدة من الشعوب العربية التي أصبحت تفضّل الموت في البحر على البقاء تحت رحمة الجلّاد، عشرات آلاف من المثقفين والأطباء والطلاب والمهندسين في السجون والمعتقلات؟ ملايين العاطلين عن العمل من الشباب العربي؟ تزاوج الفساد مع السلطة؟ حالة عدم اليقين وعدم الأمان التي تعشعش في داخل كل واحد منّا؟ آلاف الشباب العرب الذين هربوا إلى أيديولوجيا "داعش" بعد انسداد الأفق السياسي؟ فشل التعليم والتنمية والأزمات المركّبة؟ ما هو أسوأ من ذلك؛ حالة الإحباط واليأس والشعور العام بالاغتراب؟ معدلات البطالة غير المسبوقة؟ ارتفاع نسبة الانتحار؟
يؤكّد دائماً بعض أصدقائنا المثقفين أهمية الثقافة السياسية ودورها في عدم إقبال الشباب على الأحزاب، ولا ينكر الجانب الثقافي إلّا أعمش. ولكن كيف يمكن تغيير هذه الثقافة؟ أليس بإخراج الناس من حالة الرعب والخوف من الانخراط في العمل السياسي؟ أليست الحلقة المفرغة التي ما نزال نسير عليها منذ عقود، عربياً، هي أنّ البديل عن اللاعب السياسي العقلاني هو العمل تحت الأرض؟ والفكر الراديكالي والمتطرّف؟ ألم ندرك بعد أنّ الداعشية هي ابن شرعي للأنظمة السلطوية العربية؟
إلى متى ندفن رؤوسنا في الرمال؟ وندّعي أنّ بديل "الفزّاعة الإسلاميّة" هي الأنظمة الأمنية القمعية؟ أليست هذه الذريعة هي التي أتت بالعسكر ليحكموا الدول العربية؟ ماذا حلّ بمن هلّل لهم ورحّب بهم من المثقفين الذين نعرفهم؟ ألم يكونوا أول من دفع الثمن لاحقا؟ فإذا كانت الديمقراطية قفزة في المجهول، فما هو تعريف السلطوية، إذاً؟ إنّها قفزة في مصير معلوم مرعب مجرّب.
حتى الأنظمة القمعية اليوم لم تعد تقبل بالنخب المثقفة، ولم تعدّ (تلك الأنظمة) تملك تلك الوعود والأحلام الأيديولوجية التاريخية، التي كانت تفسّر لنا (ولا تبرّر بأي حال)، انحياز بعض المثقفين إليها، لأنّ الأنظمة البوليسية اليوم لا تقبل إلّا المهرّجين فقط...
الانهيار حولنا في كل شيء عربياً، وإذا كانت هنالك قيمة للتجربة التونسية ففي أنّها تسير في الطريق الآخر، وهو صعب ومتعرّج، إلّا أنّه ما يزال، على الرغم من كل شيء، يحمل آمالاً وأحلاماً وطموحات لملايين الشباب العرب، وهو الخيار الوحيد لإبقاء الأمل لدينا في المستقبل.