كم يبدو بعيداً ذلك اليوم/الرمز، يوم الأرض الفلسطينية، وكم يبدو يتيماً بعد أن تحوّل اليوم إلى ذكرى، وليس إلى خميرة تفعل فعلها كما كيمياء اللغة، وكيمياء المواجهة، وكيمياء التحدي. لم يعد للفلسطيني سوى الذكرى بعد أن حاول توحيد الأرض والشعب عدة مرات، وجرى تشتيت وحدته ووحدة أرضه عدة مرات أيضاً؛ هو لم يصب باليأس بعد، هذا صحيح، ولكنه أصيب بقيادات لم يعد لديها محورٌ ترتكز عليه، ولا معجم ترجع إليه، فما عاد يعرف إلى أين يوجه غضبه إن غضب، ولا إلى أي مفترق يتجه حين تتشعب الطرق.
يوم الأرض، ذلك اليوم الذي اقتحمت فيه قوات الاحتلال الصهيوني ما يقارب 12 قرية ومدينة فلسطينية في الجليل في 30 آذار من العام 1976، وأعادت احتلالها، لم يولد من الهواء فجأة، فقبله بسنوات، وتحديداً في عام 1959، حدث الاجتماع التأسيسي الأول لحركة اختارت أن تطلق على نفسها "حركة الأرض" في قلب فلسطين المحتلة منذ العام 1948، في تصويب بالغ الدقة على معنى وهدف المقاومة الفلسطينية منذ هبط الغزاة الصهاينة، إنجليز وبولنديون وروس وفرنسيون وبلغار.. إلخ، على السواحل الفلسطينية.
أصدر أصحاب هذه الحركة صحفاً فردية بدأت تصدر تحت أسماء محبّبة تصرُّ على هذا المعنى والهدف؛ الأرض، أو الأرض الطيبة، أو شذى الأرض.. لتنجو من موانع وحواجز المستعمرين الصهاينة، ولتصطدم أخيراً بهجمات عنيفة، مصادرة صحفها واعتقال نشطائها، وإقفال نواديها الثقافية والرياضية، بعد أن بدأت تطل على العالم الواسع من حولنا، وتتحدث بلسان فلسطيني في زمن أخرس.
هذه الحركة التي أسست لوعي معنى المقاومة الفلسطينية الحقيقي ومرماه، هي الوعي المواجه لجوهر حركة الاستعمار الصهيوني؛ أي الاستيلاء على الأرض وتصفية الوجود الفلسطيني، تلك الحركة الاستعمارية التي لم تتوقف يوماً منذ اقتلاع فلسطيني الساحل الفلسطيني وتدمير مئات القرى، ونهب مدن مثل عكا ويافا وحيفا والقدس، والاستيلاء على البيوت والحقول والتلال والجبال، وظلت متواصلة حتى اليوم، تصادر البيوت والأرض في عكا واللد والرملة وفي النقب والقدس، وفي أي مكان تصل إليه جرافاتها، وتنحسر عنه ذاكرة قيادات لم تعد تحمل من صفة "فلسطينية" حتى الاسم.
في يوم الأرض ذاك، وقبل أن ينتفض الفلسطينيون في الجليل والمثلث وبقية فلسطين، الذين صودرت ملايين الدونمات من أراضيهم، وأبيدت قراهم، وحولهم الصهاينة إلى غرباء ومشردين في وطنهم، كان من يدعى حاكم الجليل الصهيوني "يسرائيل كانيغ" الذي لا يعرف إلا الشيطان وحده من أي غيتو أوروبي جاء يخبّ بأسماله، يعكف على دراسة ما أسماها الظواهر الخطرة التي تهدد سيطرة مستعمرته المسماة "إسرائيل"؛ ظاهرة تنامي الشعور القومي لدى الفلسطينيين بعد العام 1967، والعام 1973، وتزايد أعدادهم، وبخاصة في الجليل الفلسطيني حيث بلغت نسبتهم 67% من عدد السكان هناك، وشعورهم بأن الزمن يعمل لصالحهم، وظاهرة إقبالهم على التعليم مما شحذ وعيهم القومي وبدايات تنامي نزعات الرفض لديهم، رفض الاحتلال وخرافاته، والوعي بأهمية الحفاظ على الأرض ومواجهة القمع الاستعماري بالصدام من جنوده. وأضاف إلى ذلك ملاحظة التركز السكاني للفلسطينيين، وهو تركز جعل حتى مشروعات بناء المشروعات لاجتذاب المستعمرين الصهاينة إلى الجليل غير ذي جدوى.
ولعل الأكثر لفتاً للنظر في ملحوظات هذا الصهيوني، ما يتعلق بأمرين؛ الأول تحسّسه بأن هذه الأغلبية السكانية الفلسطينية في الشمال يمكن أن تفتح إمكانية لتغلغل يأتي من الشمال واستعداد الفلسطينيين للتعاون مع هذا التغلغل، والثاني أن هذه الأغلبية السكانية يمكن أن تطالب مستقبلاً باستفتاء على مستقبل الجليل. بالطبع تكمن وراء هذا التحسب حقيقة أن الجليل الفلسطيني الأعلى يعد حسب قرارات الأمم المتحدة ذاتها أرضاً محتلة اغتصبها الصهاينة، كما اغتصبوا القدس الغربية، ولم يمنحها لهم حتى قرار التقسيم في العام 1947.
وقدم "كانيغ" تقريره السري هذا لوزير داخليته في 1 آذار 1976، مع توصيات مطبوعة بكل ما يطبع أي حركة استعمار إجرامي؛ بمصادرة أكبر قدر من الأراضي، وتشتيت التجمعات الفلسطينية، وتقليص فرص التعليم أمام الطلبة الفلسطينيين، وتشجيعهم على الدراسة في الخارج وجعل عودتهم صعبة، وعملهم أصعب، ليهاجروا، وحصر المعونات المالية التي تمنح للعائلات التي لديها أكثر من طفلين بالعائلات اليهودية فقط، وعدم السماح بأن تتجاوز نسبة العاملين الفلسطينيين في المصانع 20%... إلى ما هنالك من إجراءات ليس لها من هدف نهائي سوى تهويد منطقة الجليل الفلسطيني.
وبالفعل، وكما توقع الموظف الاستعماري هذا، اندلعت انتفاضة يوم الأرض في 30 آذار 1976، أي بعد شهر من كتابة هذا التقرير، وبعد عدة أشهر منذ العام 1975، تحرك فيها الفلسطينيون إثر توارد أنباء عن نيات سلطات الاستعمار الصهيوني مصادرة المزيد من أراضي القرى. وفي ضوء تجارب المرة السابقة، حيث صودر من أراضي الفلسطينيين أكثر من مليون دونم في الجليل والمثلث، وملايين أخرى في مناطق فلسطينية أخرى، كان لا بد من وقفة جامعة؛ فتمت الدعوة إلى أضراب شامل وتظاهرات، وهو ما تحقق في الكثير من القرى، أشهرها سخنين وعرابة وكفر كنا ودير حنا، ولم يخش الفلاحون الفلسطينيون قوات المستعمرين فواجهوها بما ملكت أيديهم، واستشهد عدد من شبانهم ونسائهم. ولم تتوقف المواجهة إلا بعد أن تراجعت سلطات الاحتلال عن قرارات المصادرة.
ولمرة ثانية، عكف ذلك الصهيوني "كانيغ" على استخلاص الدروس من الانتفاضة ، وفاجأه أن الإضراب كان شاملاً وناجحاً، وفشلت كل محاولات كسره، وحلل أسباب هذا النجاح لوضع خطط مستقبلية لمواجهتها، كما شدد على ملاحظة ذلك الشعور بالقوة والاعتزاز بالنفس الذي اكتسبه الفلسطينيون بفعل تحديهم وصدامهم مع جيش الاحتلال، ونبه سلطاته إلى عدم نسيان أن مثل هذا الشعور بين جمهور من هذا النوع وفي الأجواء التي يعيشونها، يحمل إمكانيات تطويره على يد سياسيين قادرين على شد وتقوية همم الفلسطينيين الذين "أهانتهم دولته" ودعم صمودهم وجعلهم يقفون منتصبي القامة أمام المستعمرين الصهاينة.
ولم ينس "كانيغ" هذا أن يذكر سلطاته "أنه لأول مرة منذ إنشاء دولة إسرائيل، يُخلق وضعٌ يبرز فيه السكان العرب علناً، على الضد مما تطلبه الحكومة، هويتهم وتماهيهم مع مطالب القوميين المتطرفين، ويظهرون استعداداً نفسياً للتحرك والعمل من أجل تحقيق هذه المطالب". والأنكى في رأيه "أن جزءاً كبيراً من السكان العرب دافع وما زال يدافع عن أولئك الذين هاجموا قوات الجيش الإسرائيلي، ويتحدثون علناً عن أنهم جزء منهم".