31 أكتوبر 2024
على ضوء الحراك الأردني
من المرجّح أن التطور الدموي الكارثي في الحالة السورية كان في أساس انكفاء الأردنيين بعد انطلاقهم في عام 2011، وبشكل خاص انكفائهم بعد ما عرفت باسم "هبة تشرين" في 2012، من دون أن يتمكّنوا من إرغام حكومة عبد الله النسور على التراجع عن قرارات رفع الأسعار. كما أن العراق، بعد الغزو الأميركي في ربيع 2003 وتداعياته، شكّل عبرة ضد الديموقراطية لدى الشعوب العربية، عندما تكون على النحو الذي أفضى إليه الغزو الأميركي "الديموقراطي" من دمار اجتماعي واسع، وكهربة خطوط الانقسام الطائفية والعرقية، وتحويل العراق إلى ساحة اقتتال عدمي مفتوح. وتاليا، شكلت الثورة السورية وتداعياتها عبرة أخرى، تقول إن الثورة على الحاكم طريقٌ مفتوح على الدمار والتشرد. وكانت كلا العبرتين مصدر سعادة واطمئنان للأنظمة المستبدة في المنطقة. وظهر على السطح أن كل محاولة تغيير، أكانت بقوة خارجية كحال العراق أو بقوة داخلية كحال سورية، تقود إلى دمار البلد.
غير أن تراجع مستوى المعيشة وضغط الاستبداد تتغلب، في النهاية، على الأثر المحبط للمحاولات غير الناجحة. يخرج الناس إلى الشارع من جديد، محاولين أن يدفعوا عن صدورهم الثقل المتزايد للواقع السياسي والاقتصادي. في هذا السياق، جاءت الاحتجاجات الأردنية أخيرا، والتي اندلعت على الرغم من المجزرة السورية المجاورة. ولا يخفى أثر "الدرس السوري" لدى الطرفين في الأردن، من جهة الشارع هناك ضبط للشعارات، ولا سيما في العاصمة، ومن جهة النظام هناك محاولة احتواء وابتعاد عما يمكن أن يزيد في اتساع الحراك وعمقه.
تكررت هبّات الأردنيين على مر العقود الماضية، كان من أبرزها الهيجان الشعبي في ربيع
عام 1989، على أثر رفع أسعار المحروقات، وعرف باسم "هبّة نيسان" (صادف ذلك في شهر رمضان أيضاً، كما حال الهبّة الحالية)، واضطرت الحكومة الأردنية حينها إلى إلغاء قانون الطوارئ المفروض منذ 1967. وكانت دول عربية عديدة قد شهدت هيجانات شعبية متفاوتة الحدة والاتساع، عرفت بانتفاضات الخبز، مصر 1977، المغرب 1984، تونس 1984، الجزائر 1988، لكن اللافت أن آلية استيعاب الحراك الشعبي في الأردن كانت أكثر مرونةً، على الرغم من صعوبة الوضع الاقتصادي الاردني مقارنةً بالبلدان المذكورة.
وفي صيف 1996، عقب قرار حكومة عبد الكريم الكباريتي رفع الدعم عن الخبز، شهد الأردن انتفاضة خبز أخرى، وتكرّرت الاحتجاجات في الأردن للأسباب نفسها: التضييق المعاشي على الناس لحل مشكلة المديونية، فالأردن من الدول الأعلى مديونية (38 مليار دولار)، وهو ما يشكل، حسب التقارير، 96% من إجمالي الناتج المحلي، ما يضع الأردن تحت رحمة صندوق النقد الدولي والمساعدات الخارجية.
الملحوظ أن المحرّك الأقوى للحراك الشعبي في الأردن هو الموضوع الاقتصادي، قياساً على الموضوع الوطني أو القومي، فقد تسبب قرار رفع الدعم عن الخبز بانتفاضة في 1996 لم تسببها اتفاقية وادي عربة مع إسرائيل قبل ذلك بعامين. ودائماً يجد الأردنيون أنفسهم وجهاً لوجه أمام السياسة. ينطلقون من سعر الخبز، ويصلون إلى إقالة الحكومة، ثم يكتشفون أن الحكومة الجديدة لم تفعل أكثر من دحرجة الأزمة قليلاً إلى الأمام (جدولة ديون، مساعدات .. إلخ) ليصطدم المجتمع الأردني بها تالياً.
مأزق الحالة الأردنية يكمن في محدودية مجال حركة الحكومة في ظل فقر الأردن، وضعف موارده. لذلك يبدو الحراك الشعبي محكوماً بحدودٍ متدنيةٍ من المكاسب. في هبّة نيسان 1989، قدم الملك حسين مكاسب ديموقراطية (رفع حالة الطوارئ وإجراء انتخابات نيابية وحدود معقولة من الحرية في الإعلام.. إلخ)، امتص بها نقمة الشارع ذات الجذور المعاشية. وأعطت الإصلاحات الديموقراطية للملك الأحزاب مشاركةً "مضبوطة" في السلطة.
بعد سبع سنوات من تلك الإصلاحات، عاد الأردنيون إلى الشارع مجدداً للأسباب الاقتصادية نفسها. في هذه المرة، عبر الملك عن تخوّفه على الديموقراطية في الأردن، في تهديدٍ غير مباشر موجهٍ إلى الأحزاب التي باتت تخشى على خسارة حصتها من السلطة. وبعد أن برّأ الملك جبهة العمل الإسلامي من صلتها بهؤلاء "الضالين والمضللين ومثيري الفتن" الذين اتهمهم بأنهم "بعض المنتمين لأحزاب وجهات خارج الأردن"، طلب ضربهم بيد من حديد. هكذا يبدو أن الديموقراطية المحدودة التي تجاورها سلطة أمنية مركزة في يد الملك، يمكن أن تعيق تطور الحراك الشعبي، حين تُنشئ لدى الأحزاب المشاركة في السلطة مصلحةً في استمرار النظام الذي تحوز على بعض السلطة فيه، وهذا يقيم خط فصل بينها وبين الشارع.
وفي مقابل حيوية الحراك الشعبي في الأردن، يلاحظ أن تعامل النظام الأردني غير دموي. ويمكن رد ذلك إلى ثلاثة أسباب: الأول، هشاشة الكيان الأردني، ما يفرض على الحكومة
الأردنية التعامل الحذر مع الانتفاضات الشعبية. الثاني، التركيبة العشائرية القادرة على لجم الدولة الأردنية التي قامت أساساً بالاستناد إلى العشائر. الثالث، وجود نظام حكم ملكي، إذ يبدو في وعي نسبة كبيرة من الأردنيين أن الملك معطى ثابت وفوق الأطراف، وهذا ما يعطيه القدرة على ضبط الصراعات، واتخاذ دور الحكم.
إذا صحّ ما سبق، فإنه يشير إلى مفارقةٍ، هي أن العنصرين التقليديين والبعيدين عن الحداثة (الملكية والعشائر) يشتغلان هنا لصالح صيانة علاقةٍ أكثر مرونةً بين الدولة والشعب في الأردن. تقوم العشيرة بدور "مجتمع مدني" يحدّ من قدرة الدولة على التعدّي على حقوق الناس المتحدرين من العشيرة (من دون أن نغفل عمن هم خارج حماية العشائر الكبيرة، أو عن المظالم والتمييزات الكائنة في طيات العشيرة نفسها، ولهذا بحث آخر). ويحوز الملك على قدرة تدخلٍ واسعةٍ، يمنحه إياها الموقع الذي يشغله، والذي هو في وعي قطاع واسع من الأردنيين منزلة "دائمة" تقع خارج التنافس السياسي.
تشير التجربة الأردنية، قياساً على تجربة "الأنظمة التقدمية"، إلى أن "الحداثة" المجتزأة تجعل الإنسان عارياً وبلا دفاعاتٍ في ظل "النظام التقدمي" الذي يجرّد الناس من وسائل حمايتهم التقليدية، من دون أن يسمح لهم بتطوير وسائل حماية حديثة بديلة. تحطيم التضامنات الاجتماعية المختلفة بمطرقة "الحداثة" و"التقدمية"، مع قمع بروز تضامن مدني بديل، هو أحد الطرق المشؤومة التي سلكتها الأنظمة "التقدمية" الهجينة، ووصلت، من خلالها، إلى الاستبداد المطلق، وأوصلت مجتمعاتها إلى الدمار والبؤس.
لا يقود ما سبق إلى تفضيل العلاقة العشائرية على علاقة المواطنة بالتأكيد، لكنه يفيد بأن "الحداثة" المجزوءة غالباً ما تكون وبالاً على المجتمع، كما شهدنا ونشهد بلحمنا ودمنا.
غير أن تراجع مستوى المعيشة وضغط الاستبداد تتغلب، في النهاية، على الأثر المحبط للمحاولات غير الناجحة. يخرج الناس إلى الشارع من جديد، محاولين أن يدفعوا عن صدورهم الثقل المتزايد للواقع السياسي والاقتصادي. في هذا السياق، جاءت الاحتجاجات الأردنية أخيرا، والتي اندلعت على الرغم من المجزرة السورية المجاورة. ولا يخفى أثر "الدرس السوري" لدى الطرفين في الأردن، من جهة الشارع هناك ضبط للشعارات، ولا سيما في العاصمة، ومن جهة النظام هناك محاولة احتواء وابتعاد عما يمكن أن يزيد في اتساع الحراك وعمقه.
تكررت هبّات الأردنيين على مر العقود الماضية، كان من أبرزها الهيجان الشعبي في ربيع
وفي صيف 1996، عقب قرار حكومة عبد الكريم الكباريتي رفع الدعم عن الخبز، شهد الأردن انتفاضة خبز أخرى، وتكرّرت الاحتجاجات في الأردن للأسباب نفسها: التضييق المعاشي على الناس لحل مشكلة المديونية، فالأردن من الدول الأعلى مديونية (38 مليار دولار)، وهو ما يشكل، حسب التقارير، 96% من إجمالي الناتج المحلي، ما يضع الأردن تحت رحمة صندوق النقد الدولي والمساعدات الخارجية.
الملحوظ أن المحرّك الأقوى للحراك الشعبي في الأردن هو الموضوع الاقتصادي، قياساً على الموضوع الوطني أو القومي، فقد تسبب قرار رفع الدعم عن الخبز بانتفاضة في 1996 لم تسببها اتفاقية وادي عربة مع إسرائيل قبل ذلك بعامين. ودائماً يجد الأردنيون أنفسهم وجهاً لوجه أمام السياسة. ينطلقون من سعر الخبز، ويصلون إلى إقالة الحكومة، ثم يكتشفون أن الحكومة الجديدة لم تفعل أكثر من دحرجة الأزمة قليلاً إلى الأمام (جدولة ديون، مساعدات .. إلخ) ليصطدم المجتمع الأردني بها تالياً.
مأزق الحالة الأردنية يكمن في محدودية مجال حركة الحكومة في ظل فقر الأردن، وضعف موارده. لذلك يبدو الحراك الشعبي محكوماً بحدودٍ متدنيةٍ من المكاسب. في هبّة نيسان 1989، قدم الملك حسين مكاسب ديموقراطية (رفع حالة الطوارئ وإجراء انتخابات نيابية وحدود معقولة من الحرية في الإعلام.. إلخ)، امتص بها نقمة الشارع ذات الجذور المعاشية. وأعطت الإصلاحات الديموقراطية للملك الأحزاب مشاركةً "مضبوطة" في السلطة.
بعد سبع سنوات من تلك الإصلاحات، عاد الأردنيون إلى الشارع مجدداً للأسباب الاقتصادية نفسها. في هذه المرة، عبر الملك عن تخوّفه على الديموقراطية في الأردن، في تهديدٍ غير مباشر موجهٍ إلى الأحزاب التي باتت تخشى على خسارة حصتها من السلطة. وبعد أن برّأ الملك جبهة العمل الإسلامي من صلتها بهؤلاء "الضالين والمضللين ومثيري الفتن" الذين اتهمهم بأنهم "بعض المنتمين لأحزاب وجهات خارج الأردن"، طلب ضربهم بيد من حديد. هكذا يبدو أن الديموقراطية المحدودة التي تجاورها سلطة أمنية مركزة في يد الملك، يمكن أن تعيق تطور الحراك الشعبي، حين تُنشئ لدى الأحزاب المشاركة في السلطة مصلحةً في استمرار النظام الذي تحوز على بعض السلطة فيه، وهذا يقيم خط فصل بينها وبين الشارع.
وفي مقابل حيوية الحراك الشعبي في الأردن، يلاحظ أن تعامل النظام الأردني غير دموي. ويمكن رد ذلك إلى ثلاثة أسباب: الأول، هشاشة الكيان الأردني، ما يفرض على الحكومة
إذا صحّ ما سبق، فإنه يشير إلى مفارقةٍ، هي أن العنصرين التقليديين والبعيدين عن الحداثة (الملكية والعشائر) يشتغلان هنا لصالح صيانة علاقةٍ أكثر مرونةً بين الدولة والشعب في الأردن. تقوم العشيرة بدور "مجتمع مدني" يحدّ من قدرة الدولة على التعدّي على حقوق الناس المتحدرين من العشيرة (من دون أن نغفل عمن هم خارج حماية العشائر الكبيرة، أو عن المظالم والتمييزات الكائنة في طيات العشيرة نفسها، ولهذا بحث آخر). ويحوز الملك على قدرة تدخلٍ واسعةٍ، يمنحه إياها الموقع الذي يشغله، والذي هو في وعي قطاع واسع من الأردنيين منزلة "دائمة" تقع خارج التنافس السياسي.
تشير التجربة الأردنية، قياساً على تجربة "الأنظمة التقدمية"، إلى أن "الحداثة" المجتزأة تجعل الإنسان عارياً وبلا دفاعاتٍ في ظل "النظام التقدمي" الذي يجرّد الناس من وسائل حمايتهم التقليدية، من دون أن يسمح لهم بتطوير وسائل حماية حديثة بديلة. تحطيم التضامنات الاجتماعية المختلفة بمطرقة "الحداثة" و"التقدمية"، مع قمع بروز تضامن مدني بديل، هو أحد الطرق المشؤومة التي سلكتها الأنظمة "التقدمية" الهجينة، ووصلت، من خلالها، إلى الاستبداد المطلق، وأوصلت مجتمعاتها إلى الدمار والبؤس.
لا يقود ما سبق إلى تفضيل العلاقة العشائرية على علاقة المواطنة بالتأكيد، لكنه يفيد بأن "الحداثة" المجزوءة غالباً ما تكون وبالاً على المجتمع، كما شهدنا ونشهد بلحمنا ودمنا.