06 نوفمبر 2024
عندما تكلمت الأرض في غزة
كان أبي، رحمه الله، يردد على مسامعي عبارةً على سبيل منحي بعض الصبر، حين أشكو أمامه من هذه السنوات العجاف التي نعيشها في غزة منذ أكثر من عشر سنوات. كان يقول لي: لا تساوي هذه السنوات شيئاً في تاريخ الشعوب، فالغزو الصليبي ظل تسعة قرون في القدس ثم زال، فكيف بغزة أرض المعجزات التي فيها قوم جبارون؟
كان أبي محقاً، لأن اليأس الذي تسرب إلى قلبي أنساني ما كانت عليه "الأيام الخوالي"، لو أطلقنا عليها ذلك إبان الانتفاضة الشعبية في عام 1987. مشهد الطفل الصغير العاري الجسد وهو يضع كمامةً على فمه دس فيها بصلة صغيرة، يستنشقها لاتقاء الغازات المسيلة للدموع، والتي كان يلقيها الجنود المتمركزون على الحدود على شكل قنابل، باتجاه الجماهير الغفيرة التي خرجت لإحياء ذكرى يوم الأرض الثانية والأربعين. أعاد هذا المشهد إلى ذاكرتي مشاهد مشابهة من زمن انتفاضة الحجارة، والتي قال عنها شيمون بيريز في كتابه "شرق أوسط جديد": لقد واجهنا الفلسطينيون بأقوى سلاح لديهم، وهو الانتفاضة الشعبية التي وضعت إسرائيل في مشكلة سياسية أخلاقية أمام العالم".
تعود غزة اليوم لإدهاش العالم أجمع، فهي تضع إسرائيل في مأزق أمامه، لأن هذه حين شنت ثلاث حروب على غزة كان ذلك بدعوى أنها موجهة إلى غزة التي تحت الأرض، معتقدة أن غزة فوق الأرض أصبحت مأمونة الجانب بموت الكبار ونسيان الصغار قضية العودة، وهم يشبون في المخيمات والأزقة، ولا يجدون من يحدّثهم عن "الأيام الخوالي" التي شهدتها، فأنا مثلاً توقفت عن الحديث عنها أمام أولادي، وهم الجيل الجديد الذي لا يرى أملاً يلوح في الأفق، بسبب انشغالنا جميعاً بالهم اليومي، ولم أكن أعلم أن لدى أولادي، مثل باقي أولاد غزة، المخزون الثوري الفلسطيني الذي لا ينضب، فالحشود التي خرجت راجلة وراكبة نحو الحدود، والتحمت مع العدو في مواجهة غير متكافئة، وهي تكبر وترفع إشارة النصر، هي فلسطين بكل المعاني الموجزة. كانت القضية كلها على الحدود في ذلك اليوم، "صفقة القرن" التي خططوا لها كان هناك من يدلي بلسانه نحوها، وقد نزعت من رأسي خيالاتٍ مزعجة عن توطيننا لاجئين في سيناء، حسب مخططات هذه الصفقة.
استخدام الاحتلال الإسرائيلي الرصاص الحي المتفجر بشكل مفرط يعكس خوف إسرائيل وهلعها المفرط من الجيل الجديد، بعد أن استخدمت الصواريخ وقذائف الدبابات بإفراط، وهي توحي للعالم بأنها تواجه جيشاً يعادلها قوة، وهو ما يعرف بغزة التي تحت الأرض، ولكن المعادلة الصحيحة تعود اليوم إلى الواجهة، وهي أن إسرائيل تواجه قوة أكبر وأكثر شراسة، وهي السواعد التي ترمي الحجارة، وتشعل إطارات السيارات، وتضع الكمامات البدائية الصنع على الوجوه التي لوّحتها شمس بحر غزة، معلم الثورة الأول لأهلها، تلك الوجوه الجائعة والمثابرة من أجل لقمة عيش وشبه حياة.
مسيرة العودة التي زحفت نحو الحدود في يوم إحياء ذكرى الأرض قوّضت ثقة جيش الاحتلال بنفسه من خلال اقتراب الجموع المنتعشة الذاكرة من السياج، ومحاولات التسلل، على الرغم من قلتها، لاجتياز الحدود، والدخول إلى عمق الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل فعلياً، ما أثار الذعر لدى المغتصبين الذين يقطنون المغتصبات المحاذية لما يعرف بغلاف غزة، ففرّوا هاربين، كما أنها كشفت روح الكفاح غير المسلح أمام جيشٍ مدججٍ بأسلحة متطورة، يجري استخدامها أول مرة.
كشفت هبّة غزة 2018 الحقيقة التي لا ينكرها العدو ولا الصديق، أن غزة قوية، أن غزة هي صانعة الأبطال وصانعة أساتذة النضال، أن الأمهات يزغردن، بعد أن يزرعن أكبادهن في السماء، فسلام على غزة بلدي الصغير، سلام على غزة من لاجئةٍ ولدت فيها وتربت وترعرعت فيها، ودفنت فيها والديها وأجدادها الذين علموها أن غزة تتحدّى جيوش الذبح، لأن الأمهات يُرضعن أولادهن الرجولة والتضحية. ولذلك تبقى دائماً في المقدمة، ويحسب لها العالم، على صغرها، ألف حساب.
كان أبي محقاً، لأن اليأس الذي تسرب إلى قلبي أنساني ما كانت عليه "الأيام الخوالي"، لو أطلقنا عليها ذلك إبان الانتفاضة الشعبية في عام 1987. مشهد الطفل الصغير العاري الجسد وهو يضع كمامةً على فمه دس فيها بصلة صغيرة، يستنشقها لاتقاء الغازات المسيلة للدموع، والتي كان يلقيها الجنود المتمركزون على الحدود على شكل قنابل، باتجاه الجماهير الغفيرة التي خرجت لإحياء ذكرى يوم الأرض الثانية والأربعين. أعاد هذا المشهد إلى ذاكرتي مشاهد مشابهة من زمن انتفاضة الحجارة، والتي قال عنها شيمون بيريز في كتابه "شرق أوسط جديد": لقد واجهنا الفلسطينيون بأقوى سلاح لديهم، وهو الانتفاضة الشعبية التي وضعت إسرائيل في مشكلة سياسية أخلاقية أمام العالم".
تعود غزة اليوم لإدهاش العالم أجمع، فهي تضع إسرائيل في مأزق أمامه، لأن هذه حين شنت ثلاث حروب على غزة كان ذلك بدعوى أنها موجهة إلى غزة التي تحت الأرض، معتقدة أن غزة فوق الأرض أصبحت مأمونة الجانب بموت الكبار ونسيان الصغار قضية العودة، وهم يشبون في المخيمات والأزقة، ولا يجدون من يحدّثهم عن "الأيام الخوالي" التي شهدتها، فأنا مثلاً توقفت عن الحديث عنها أمام أولادي، وهم الجيل الجديد الذي لا يرى أملاً يلوح في الأفق، بسبب انشغالنا جميعاً بالهم اليومي، ولم أكن أعلم أن لدى أولادي، مثل باقي أولاد غزة، المخزون الثوري الفلسطيني الذي لا ينضب، فالحشود التي خرجت راجلة وراكبة نحو الحدود، والتحمت مع العدو في مواجهة غير متكافئة، وهي تكبر وترفع إشارة النصر، هي فلسطين بكل المعاني الموجزة. كانت القضية كلها على الحدود في ذلك اليوم، "صفقة القرن" التي خططوا لها كان هناك من يدلي بلسانه نحوها، وقد نزعت من رأسي خيالاتٍ مزعجة عن توطيننا لاجئين في سيناء، حسب مخططات هذه الصفقة.
استخدام الاحتلال الإسرائيلي الرصاص الحي المتفجر بشكل مفرط يعكس خوف إسرائيل وهلعها المفرط من الجيل الجديد، بعد أن استخدمت الصواريخ وقذائف الدبابات بإفراط، وهي توحي للعالم بأنها تواجه جيشاً يعادلها قوة، وهو ما يعرف بغزة التي تحت الأرض، ولكن المعادلة الصحيحة تعود اليوم إلى الواجهة، وهي أن إسرائيل تواجه قوة أكبر وأكثر شراسة، وهي السواعد التي ترمي الحجارة، وتشعل إطارات السيارات، وتضع الكمامات البدائية الصنع على الوجوه التي لوّحتها شمس بحر غزة، معلم الثورة الأول لأهلها، تلك الوجوه الجائعة والمثابرة من أجل لقمة عيش وشبه حياة.
مسيرة العودة التي زحفت نحو الحدود في يوم إحياء ذكرى الأرض قوّضت ثقة جيش الاحتلال بنفسه من خلال اقتراب الجموع المنتعشة الذاكرة من السياج، ومحاولات التسلل، على الرغم من قلتها، لاجتياز الحدود، والدخول إلى عمق الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل فعلياً، ما أثار الذعر لدى المغتصبين الذين يقطنون المغتصبات المحاذية لما يعرف بغلاف غزة، ففرّوا هاربين، كما أنها كشفت روح الكفاح غير المسلح أمام جيشٍ مدججٍ بأسلحة متطورة، يجري استخدامها أول مرة.
كشفت هبّة غزة 2018 الحقيقة التي لا ينكرها العدو ولا الصديق، أن غزة قوية، أن غزة هي صانعة الأبطال وصانعة أساتذة النضال، أن الأمهات يزغردن، بعد أن يزرعن أكبادهن في السماء، فسلام على غزة بلدي الصغير، سلام على غزة من لاجئةٍ ولدت فيها وتربت وترعرعت فيها، ودفنت فيها والديها وأجدادها الذين علموها أن غزة تتحدّى جيوش الذبح، لأن الأمهات يُرضعن أولادهن الرجولة والتضحية. ولذلك تبقى دائماً في المقدمة، ويحسب لها العالم، على صغرها، ألف حساب.