19 نوفمبر 2024
عن "الحيرة السلفية" الراهنة
كمّ كبير من الدراسات والكتب والأوراق والتحليلات والأبحاث كُتب عن التحولات البنيوية الكبرى التي أصابت التيارات السلفية خلال زلزال العربي 2011، إذ دخل السلفيون مربع العمل السياسي والحزبي، بعد أن كانوا عقوداً يستنكفون عنه ويعتبرونه "مضيعة للوقت".
قاد تلك التحولات في البداية حزب النور السلفي، الذراع السياسي للدعوة السلفية في الإسكندرية، وتمكّن، خلال فترةٍ لا تتعدّى الأشهر، أن ينقلب على ما كان يُعتبر "ثوابت راسخة" في البداية، من رفض العمل السياسي وتكفير الديمقراطية ومهاجمة الإسلام السياسي، ليصبح حزباً سياسياً ويشارك في الانتخابات، ويحصد (مؤقتاً) ما زرعه في الدعوة والتربية والانتشار خلال عقود طويلة، ويحقق المفاجأة الكبرى، فيأخذ المقعد الثاني في البرلمان خلف الإخوان المسلمين مباشرة، متفوّقاً على أحزاب تاريخية سياسية.
لم يشكّل السلفيون الحزب فقط، بل أصبحوا نجوماً إعلاميين، ودخلوا في السجالات السياسية والدستورية، وساهموا في تشكيل حالة من القلق والتوتر في أوساط التيار العلماني والليبرالي، ليأخذوا بعد ذلك موقفاً مؤيداً لما حدث في 30 يونيو/ حزيران 2013، بذرائع مختلفة، ويبقى الحزب، ولكن في حالة من الصراع والأزمات الأيديولوجية والفكرية الداخلية والخارجية، ولتخرج قيادات بارزة فيه في انشقاقات متتالية، وليبدي بعضهم ندماً على الدخول في مجال السياسة، ويدعوا إلى العودة إلى "زمن العمل الدعوي".
لم يكن حزب النور وحده من تخلّى عن ثوابته، فحتى التيارات السلفية الأخرى في مصر قامت، هي الأخرى، باستدارة، وأسست أحزاباً سياسية أخرى، مثل حزب الأصالة وحركة "حازميون"، لكنها ذهبب مع "الإخوان" في مصير الإقصاء والاعتقال والهجرة والمطاردة والقتل، بعد 2013، وفقد العمل السياسي السلفي، خارج إطار حزب النور، بريقه وفعاليته، وأصبح ذا طابع إعلامي أكثر منه واقعي.
لم يضرب الزلزال السلفيين المصريين وحدهم، بل التيار السلفي برمّته، فتجربة "النور" أغرت سلفيين آخرين بالتحوّل إلى أحزاب سياسية، من بينها سلفيون جهاديون، وكانت القاعدة نفسها تشعر بالحرج في ثورات الربيع العربي، وتبدأ مراجعات في ضوء الثورات السلمية، وظهرت بوادر لأحزاب سلفية في اليمن وتونس، وقاد التيار السلفي الحركي - الإصلاحي مراجعات سلفية دولية، ورُدّ الاعتبار لشخصيات سلفية سياسية، مثل الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، كانت تدفع نحو دخول السلفيين معمعة العمل السياسي.
لم يكن الربيع العربي والثورة المضادة هما ما صدما التيار السلفي وأطاحا به يميناً ويساراً، بل التحولات السعودية في الأعوام الأخيرة أيضا تمثل زلزالاً لا يقلّ قوة في اهتزازاته، إذ طالما كانت السعودية دولة الدعوة السلفية (بصيغتها المحافظة)، وطالما دعمت السلفيين، في الداخل والخارج، وهي اليوم تفضّ هذه الشراكة، وتحرج ليس فقط الإصلاحيين، بل التقليديين، وحتى الذين طالما كانوا في صف الحاكم ومعه في مواجهة التيارات السلفية الثورية والحركية على السواء.
على الجهة المقابلة، لا يبدو وضع التيار السلفي - الجهادي أفضل حالاً، بعد أن انقسم إلى شطرين؛ القاعدة وداعش، وضعف الأولى وهزيمة الثانية المدوّية عسكرياً، وانهيار آمال خادعة لآلاف الشباب الذين جرّهم التنظيم وراء سراب وأوهام بذريعة إقامة الخلافة والدولة الإسلامية على رمال متحركة.
قد لا يعترف أي تيار سلفي من الألوان الرئيسية في المشهد العربي اليوم بحجم الخسائر والحيرة الكبيرة التي يمرّ بها، لكنّ الواقع أقوى من أي حالة إنكار؛ فالرهانات تبدو جميعاً مربكة ومرهقة ومعقّدة، بعد أن كان هذا التيار يشعر قبل أقل من عقد أنّه في أفضل حالاته.
في الأثناء، لا تبدو هنالك مراجعاتٌ عميقة (في الحدّ الأدنى بما هو منشور إعلامياً) لدى أي تيار، فمن اختاروا المضي مع الحكومات والسلطات العربية يصمتون، ويتجاهلون الأسئلة، كما هي حال التقليديين وحزب النور، وغيرهم، وربما يتذرعون بقاعدة "درء المفاسد"، والذين اختاروا المعارضة والمطاردة والاحتجاج أيضاً يراوحون في المربع نفسه، لكن ذلك لا يكشف، بالضرورة، لا يعكس بصورة أمينة ما يمكن أن ينجم من هذه الزلازل من عواصف داخل هذه التيارات، وما يمكن أن تؤدّي إليه في المستقبل القريب.
هذا وذاك يدفع الباحثين والمحللين والمتخصصين إلى زيارة أخرى لـ"الداخل السلفي" كي لا يصدموا غداً بمتغيرات هائلة، كما حدث في بدايات الربيع العربي.
لم يشكّل السلفيون الحزب فقط، بل أصبحوا نجوماً إعلاميين، ودخلوا في السجالات السياسية والدستورية، وساهموا في تشكيل حالة من القلق والتوتر في أوساط التيار العلماني والليبرالي، ليأخذوا بعد ذلك موقفاً مؤيداً لما حدث في 30 يونيو/ حزيران 2013، بذرائع مختلفة، ويبقى الحزب، ولكن في حالة من الصراع والأزمات الأيديولوجية والفكرية الداخلية والخارجية، ولتخرج قيادات بارزة فيه في انشقاقات متتالية، وليبدي بعضهم ندماً على الدخول في مجال السياسة، ويدعوا إلى العودة إلى "زمن العمل الدعوي".
لم يكن حزب النور وحده من تخلّى عن ثوابته، فحتى التيارات السلفية الأخرى في مصر قامت، هي الأخرى، باستدارة، وأسست أحزاباً سياسية أخرى، مثل حزب الأصالة وحركة "حازميون"، لكنها ذهبب مع "الإخوان" في مصير الإقصاء والاعتقال والهجرة والمطاردة والقتل، بعد 2013، وفقد العمل السياسي السلفي، خارج إطار حزب النور، بريقه وفعاليته، وأصبح ذا طابع إعلامي أكثر منه واقعي.
لم يضرب الزلزال السلفيين المصريين وحدهم، بل التيار السلفي برمّته، فتجربة "النور" أغرت سلفيين آخرين بالتحوّل إلى أحزاب سياسية، من بينها سلفيون جهاديون، وكانت القاعدة نفسها تشعر بالحرج في ثورات الربيع العربي، وتبدأ مراجعات في ضوء الثورات السلمية، وظهرت بوادر لأحزاب سلفية في اليمن وتونس، وقاد التيار السلفي الحركي - الإصلاحي مراجعات سلفية دولية، ورُدّ الاعتبار لشخصيات سلفية سياسية، مثل الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، كانت تدفع نحو دخول السلفيين معمعة العمل السياسي.
لم يكن الربيع العربي والثورة المضادة هما ما صدما التيار السلفي وأطاحا به يميناً ويساراً، بل التحولات السعودية في الأعوام الأخيرة أيضا تمثل زلزالاً لا يقلّ قوة في اهتزازاته، إذ طالما كانت السعودية دولة الدعوة السلفية (بصيغتها المحافظة)، وطالما دعمت السلفيين، في الداخل والخارج، وهي اليوم تفضّ هذه الشراكة، وتحرج ليس فقط الإصلاحيين، بل التقليديين، وحتى الذين طالما كانوا في صف الحاكم ومعه في مواجهة التيارات السلفية الثورية والحركية على السواء.
على الجهة المقابلة، لا يبدو وضع التيار السلفي - الجهادي أفضل حالاً، بعد أن انقسم إلى شطرين؛ القاعدة وداعش، وضعف الأولى وهزيمة الثانية المدوّية عسكرياً، وانهيار آمال خادعة لآلاف الشباب الذين جرّهم التنظيم وراء سراب وأوهام بذريعة إقامة الخلافة والدولة الإسلامية على رمال متحركة.
قد لا يعترف أي تيار سلفي من الألوان الرئيسية في المشهد العربي اليوم بحجم الخسائر والحيرة الكبيرة التي يمرّ بها، لكنّ الواقع أقوى من أي حالة إنكار؛ فالرهانات تبدو جميعاً مربكة ومرهقة ومعقّدة، بعد أن كان هذا التيار يشعر قبل أقل من عقد أنّه في أفضل حالاته.
في الأثناء، لا تبدو هنالك مراجعاتٌ عميقة (في الحدّ الأدنى بما هو منشور إعلامياً) لدى أي تيار، فمن اختاروا المضي مع الحكومات والسلطات العربية يصمتون، ويتجاهلون الأسئلة، كما هي حال التقليديين وحزب النور، وغيرهم، وربما يتذرعون بقاعدة "درء المفاسد"، والذين اختاروا المعارضة والمطاردة والاحتجاج أيضاً يراوحون في المربع نفسه، لكن ذلك لا يكشف، بالضرورة، لا يعكس بصورة أمينة ما يمكن أن ينجم من هذه الزلازل من عواصف داخل هذه التيارات، وما يمكن أن تؤدّي إليه في المستقبل القريب.
هذا وذاك يدفع الباحثين والمحللين والمتخصصين إلى زيارة أخرى لـ"الداخل السلفي" كي لا يصدموا غداً بمتغيرات هائلة، كما حدث في بدايات الربيع العربي.