21 أكتوبر 2024
عن أركيولوجيا السياسة و"الحقيقة والكرامة" في تونس
تعميق النقاش بشأن معركة هيئة الحقيقة والكرامة، والتي عاشت على وقعها تونس الأسبوع الأخير من شهر مارس/ آذار 2018، لن يفيد مسار العدالة الانتقالية إلا في حدود الإنصاف التاريخي، أما المسار برمته فقد أنهت الجدال حوله توازنات القوة التي تعيشها تونس منذ نهاية العام 2014. وقد اتخذ القرار رئيس الجمهورية، الباجي السبسي، باعتباره المتحكم الرئيسي في خيوط السلطة، واللعبة السياسية ككل، بإنهاء مسيرة هيئة الحقيقة والكرامة، وإعدامها سياسيا وحقوقيا وتاريخيا مطلع شهر يونيو/ حزيران المقبل، بعد أن تكون قد استوفت أربع سنوات بالتمام والكمال، أما مجلس النواب فلم يكن سوى الأداة منفذة القرار. مصادقة المجلس الوطني التأسيسي على قانون العدالة الانتقالية، وإحداثه هيئة للأركيولوجيا السياسية والاجتماعية والنبش في الماضي، تحت مسمى الحقيقة والكرامة، كان في غفلة من دولة الأعماق، ومن رجال الحقبتين، البورقيبية والبنعلية، المعنيين رئيسيا بالعدالة الانتقالية، الذين استماتوا في إجهاض الفعلة الشنعاء للمجلس التأسيسي.
بدأت محاولات إفشال وظيفة الهيئة تزامنا مع انطلاق عملها باستقالة بعض أعضائها، وتوجه آخرين إلى المحكمة الإدارية مقاضاة لها، وامتناع مجلس نواب الشعب عن تسديد الشغورات التي طاولتها، وشن حملات إعلامية منظمة ضدها، تشكيكا في رسالتها ودورها في إرجاع الحقوق المسلوبة وردّ الاعتبار للضحايا والمعذبين والثكالى واليتامى والشهداء والمقموعين، لينتهي الأمر إلى المسرحية القانونية والسياسية التي دارت فصولها في الجلسة العامة للمجلس يومين كاملين، من دون أي احترامٍ للنصاب، واحترام الإجراءات الشكلية التي دأب المجلس
على الالتزام بها. انحنى المجلس، وهو الذي يمثل أعلى سلطة أفرزتها صناديق الديمقراطية. انحنى راكعا أمام السلطة التنفيذية الرئاسية، منفذا إرادتها في عرض قرار هيئة وطنية للمناقشة والتصويت، الأمر الذي لم يحدث حتى مع قرارات الحكومة ورئيسها ووزرائها وأوامرها الحكومية. نزل المجلس من عليائه التي منحها إياه دستور البلاد في مناقشة القوانين الأساسية والعادية، وإعطاء الثقة للحكومة وأعضائها وسحبها منهم كلما اقتضت الحاجة ذلك، وانتخاب أعضاء الهيئات الوطنية والدستورية، إلى مناقشة القرارات والدخول في التفاصيل والجزئيات التي لم تنص عليها مواثيقه ونصوصه وأنظمته الداخلية ومختلف القوانين المعمول بها في البلاد.
وضعت الدولة نفسها في مواجهة إحدى هيئاتها الوطنية، المؤتمنة على الإنصاف وحفظ الذاكرة، منطلقا لا غنى عنه للمصالحة والعيش المشترك بين فرقاء البلد الواحد، فعرقلت عملها، وحالت بينها وبين الوثائق وأرشيفات الوزارات المعنية، وسنت قانونا موازيا يتناقض مع قانون العدالة الانتقالية، وأخفت الجلادين ومنحتهم الحماية الكافية. وظفت دولة الأعماق وقواها المتنفذة كل وسائل الدعاية الممكنة، لتشويه مسار العدالة الانتقالية، واتهام هيئة الحقيقة والكرامة بشتى التهم، ونعتها بكل النعوت، لعل أهمها تزييف التاريخ وإعادة كتابته وفق رؤيتها ومنظورها، والتحريض على الكراهية وتقسيم المجتمع، وهو ما يعاقب عليه القانون. وبالتوازي مع ذلك جندت رجال قانون ممن ارتضوا لأنفسهم العمل تحت الطلب، المنعوتين في الوسط القانوني التونسي بقانونيي السلطان. وبالتوازي مع ذلك بعض مؤرخيه، الذين يستنجد بهم رئيس البلاد، كلما طلّ على الشعب، يريد تمرير قانونٍ تشتم منه الروائح الكريهة، مثل قانون المصالحة الإدارية الذي كان عفوا حقيقيا على فريق من الإداريين والساسة الذين ارتكبوا جرائم في حق الدولة والمجتمع، أدت إلى مظالم كثيرة، مثل هدر المال العام وسرقته وتزوير المناظرات المؤدية للوظيفة العمومية.
لم يحترم قانونيو السلطان وأيديولوجيوه ما جاء في الدستور التونسي، وعلويته الذي ينص، في فصله عدد 148، على التزام الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها، والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، وبعدم سقوط الجريمة والعقاب بمرور الزمن.
وهذه التشريعات هي قانون العدالة الانتقالية نفسه الذي ينص، في فصله عدد 18، على أن عمل الهيئة محدد بأربع سنوات، بداية من تاريخ تسمية أعضائها قابلة للتمديد مرة واحدة سنة واحدة، بقرار معلل من الهيئة، يرفع إلى المجلس المكلف بالتشريع. وفي فصله عدد 38 الذي يؤكد على أنه لا يحق لأي كان التدخل في أعمالها (الهيئة)، أو التأثير على قراراتها. معركة الحقيقة والكرامة والإنصاف والذاكرة سياسية بامتياز، تخفي حجم الصراعات العميقة والمؤثرة التي عرفتها تونس في تاريخها المعاصر نصف قرن أو يزيد، من أجل السلطة والحكم والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة الوطنية، وهي معركة الحقوق والحريات والمشاركة السياسة، هي كذلك أحد وجوه معارك الاستقلال والسيادة الوطنية، ما دعا إلى استرجاع المخزون التاريخي المتعلق بكل هذه المسائل مجتمعة، وإن اختزالها في الصراع على رئاسة الهيئة، والدعوة إلى تغيير رئيستها على ما ارتكبته من خطأ وخطيئة، هو ضرب من الاستبلاه والتحايل على القوى السياسية والاجتماعية والمدنية، وكل النخب الوطنية، بمختلف مشاربها الفكرية وأيديولوجياتها التي ولدت في خضم الصراع التاريخي مع قوى الهيمنة والاستبداد، واحتكار السلطة وقمع المعارضين، ونفيهم من الحياة فكرا وتنظيما ووجودا، التي وجدت نفسها على اختلافها وتنوعها وتناقضها في أحيان كثيرة، تلتقي على الموقف نفسه، المؤيد للتمديد لهيئة الحقيقة والكرامة في مواجهة ورثة عهود الاستبداد والظلم، من دون حتى سابق تنسيق واتفاق، فهل يلدغ بعض هذه القوى من جحر واحد مرتين، كما بدأ يلوح في الأفق؟
بدأت محاولات إفشال وظيفة الهيئة تزامنا مع انطلاق عملها باستقالة بعض أعضائها، وتوجه آخرين إلى المحكمة الإدارية مقاضاة لها، وامتناع مجلس نواب الشعب عن تسديد الشغورات التي طاولتها، وشن حملات إعلامية منظمة ضدها، تشكيكا في رسالتها ودورها في إرجاع الحقوق المسلوبة وردّ الاعتبار للضحايا والمعذبين والثكالى واليتامى والشهداء والمقموعين، لينتهي الأمر إلى المسرحية القانونية والسياسية التي دارت فصولها في الجلسة العامة للمجلس يومين كاملين، من دون أي احترامٍ للنصاب، واحترام الإجراءات الشكلية التي دأب المجلس
وضعت الدولة نفسها في مواجهة إحدى هيئاتها الوطنية، المؤتمنة على الإنصاف وحفظ الذاكرة، منطلقا لا غنى عنه للمصالحة والعيش المشترك بين فرقاء البلد الواحد، فعرقلت عملها، وحالت بينها وبين الوثائق وأرشيفات الوزارات المعنية، وسنت قانونا موازيا يتناقض مع قانون العدالة الانتقالية، وأخفت الجلادين ومنحتهم الحماية الكافية. وظفت دولة الأعماق وقواها المتنفذة كل وسائل الدعاية الممكنة، لتشويه مسار العدالة الانتقالية، واتهام هيئة الحقيقة والكرامة بشتى التهم، ونعتها بكل النعوت، لعل أهمها تزييف التاريخ وإعادة كتابته وفق رؤيتها ومنظورها، والتحريض على الكراهية وتقسيم المجتمع، وهو ما يعاقب عليه القانون. وبالتوازي مع ذلك جندت رجال قانون ممن ارتضوا لأنفسهم العمل تحت الطلب، المنعوتين في الوسط القانوني التونسي بقانونيي السلطان. وبالتوازي مع ذلك بعض مؤرخيه، الذين يستنجد بهم رئيس البلاد، كلما طلّ على الشعب، يريد تمرير قانونٍ تشتم منه الروائح الكريهة، مثل قانون المصالحة الإدارية الذي كان عفوا حقيقيا على فريق من الإداريين والساسة الذين ارتكبوا جرائم في حق الدولة والمجتمع، أدت إلى مظالم كثيرة، مثل هدر المال العام وسرقته وتزوير المناظرات المؤدية للوظيفة العمومية.
لم يحترم قانونيو السلطان وأيديولوجيوه ما جاء في الدستور التونسي، وعلويته الذي ينص، في فصله عدد 148، على التزام الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها، والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، وبعدم سقوط الجريمة والعقاب بمرور الزمن.