01 نوفمبر 2024
عن الحكومة التونسية وعوائق منح الثقة
أكثر من ثلاثة أسابيع مرت على تكليف الرئيس التونسي، قيس سعيد، الوزير السابق، إلياس الفخفاخ، بمهمة تشكيل الحكومة، مانحا إياه شهرا لعرضها على البرلمان لنيل الثقة. وجاء اختيار الفخفاخ، بعد أن فشل الحبيب الجملي، مرشح حركة النهضة، الحزب الأول في الانتخابات التشريعية ليوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، في تأمين أغلبية برلمانية تساوي أو تفوق 109 من النواب، وذلك التزاما بالفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور التونسي التي تنص على "إجراء رئيس الجمهورية مشاوراتٍ مع الأحزاب والائتلافات والكتل البرلمانية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر". واجه الفخفاخ الذي رشحه حزب تحيا تونس (14 مقعداً)، الشخصية الأقدر، لتولي رئاسة الحكومة، وأيده في ذلك حزب التيار الديمقراطي (22 مقعداً)، منذ البداية، إشكالات ذات طبيعة ديونطولوجية صرفة، مأتاها ترشّحه للانتخابات الرئاسية لسنة 2019 وحصوله على قدر ضعيف جداً من الأصوات، أي في حدود 11532 صوتا، من ثلاثة ملايين وعشرة آلاف ناخب، بنسبة 0.34%، محتلا المرتبة 16 من ضمن 26 مرشحا، وعدم فوز حزبه، التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وهو الذي يتولى رئاسة مجلسه الوطني (أعلى سلطة حزبية بين مؤتمرين) بأي مقعد برلماني في الانتخابات التشريعية. ومن ذلك الرميم أو الرماد السياسي، انبعث إلياس الفخفاخ مكلفا بتشكيل الحكومة التونسية، مستثمرا رأسمال انتخابيا جاء بقيس سعيد رئيسا، ومنحه شرعيةً شعبيةً هي الأعلى في سلالم نتائج الانتخابات غير المزيفة التي لم تعرفها تونس إلا بعد سنة 2011. نبتت شرعية الفخفاخ في قيادة الشأن العام الحكومي من سوء إدارة حركة النهضة، الحزب ألأغلبي لمفاوضات تشكيل الحكومة التونسية، وفشلها الذريع في إقناع فُرقاء السياسة التونسية من العائلات الفكرية والسياسية الدستورية واليسارية والقومية العربية
أشارت المذكرة التعاقدية من أجل ائتلاف حكومي (13 ص)، وعنوانها "حكومة الوضوح وإعادة الثقة"، وهي الإعلان السياسي للحكومة المرتقبة، إلى الالتزام بقيم الثورة واستكمال تحقيق أهدافها وترسيخ المسار الديمقراطي وتحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق الدستور وقيم الجمهورية وتعزيز مكتسبات الدولة الوطنية، واستكمال مؤسّسات الدولة وأخلقة الحياة السياسية، والانتقال إلى دولة العدالة الاجتماعية الآمنة والعادلة والمنصفة والاقتصاد الناجع ذي القيمة المضافة العالية، وإشراك المواطنين وتكريس اللامركزية والسلطة المحلية، مع تحديد جملة من الأولويات العاجلة ومتوسطة المدى وآليات ممارستها.
أجرى الفخفاخ مشاورات طويلة ومرهقة ومضنية مع مجموعة من الأحزاب السياسية، اتفق
معها على وثيقة التعاقد الحكومي أرضيةً سياسية للحكم، وعلى أن تتكون حكومته من 28 وزيرا تتقاسمها أحزاب التيار الديمقراطي وحركة الشعب وحركة النهضة وحزب تحيا تونس ومجموعة أخرى من الأحزاب الصغيرة، بحسب تمثيليتها البرلمانية مع بعض الوزراء غير المنتمين. وقد مكّنت التوزيعية الحكومية حركة النهضة من النصيب الأوفر من الوزراء بست حقائب، النقل والتجهيز والإسكان والشباب والرياضة والصحة والتعليم العالي والبحث العلمي والشؤون المحلية، مع حقيبتين لكل من منجي مرزوق أحد مرشحي "النهضة" لرئاسة الحكومة إثر الانتخابات التشريعية والوزير في الترويكا الأولى والثانية، وأخرى لأسامة الخريجي عميد المهندسين التونسيين، المحسوب بدوره على الإسلاميين. وكان نصيب التيار الديمقراطي ثلاث وزارات، هي الإصلاح الإداري وأملاك الدولة والشؤون العقارية والتربية، وحركة الشعب بوزارتين، التكوين والتشغيل والتجارة، ومُنحت حركة تحيا تونس وزارتي البيئة والتنمية والتعاون الدولي، واقتصر نصيب حزب بديل تونس على حقيبة السياحة، وكذلك الأمر بالنسبة لحزب نداء تونس الذي منح حقيبة العلاقة مع البرلمان. أما بقية الوزارات وكتابتا الدولة فقد اختار لها إلياس الفخفاخ شخصيات نسائية ورجالية مستقلة، على الرغم من الماضي السياسي والحزبي لبعضها، وذلك بعد التشاور مع رئيس الجمهورية فيما يتعلق بحقيبتي الدفاع والخارجية، وكذلك الأمر بالنسبة لوزارة الداخلية التي رُشّح لها المستشار برئاسة الجمهورية هشام المشيشي. إلا أن حركة النهضة نقضت العهد النهائي الحاصل بين الفخفاخ والأحزاب السياسية الذي جرى في الساعات الأخيرة من يوم 15 فبراير/ شباط الجاري، وقبل ساعة من تقديم قائمة أعضاء الحكومة إلى رئيس الجمهورية وفق الأعراف الدستورية، معلنة انسحابها
من مشاورات تشكيل الحكومة، وسحب وزرائها المقترحين. وعلل الحزب الإسلامي انسحابه بعدم موافقته على تمشي تشكيل الحكومة والمقاربة المعتمدة التي أدت إلى إقصاء حزب قلب تونس، وتمسّكه بوزارة تكنولوجيا الاتصالات الممنوحة للبنى الجريبي، القيادية السابقة بحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، ورغبته في البقاء على رأس وزارة الجماعات المحلية موحدة مع البيئة الممنوحة لحزب تحيا تونس. وتبدو المبرّرات التي سوقتها "النهضة للانسحاب" من حكومة الفخفاخ وعدم منحها الثقة في البرلمان واهية، فهي من دفع الرجل إلى استثناء حزب قلب تونس منذ البداية، فقد وصفه رئيس الحركة، راشد الغنوشي، بحزب المكرونة الفاسد، وتعهّد بعدم التحالف معه تحت أي مبرر، وإنْ أدّى الأمر إلى الذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها. و"النهضة" هي من طلبت من مرشحها السابق لرئاسة الحكومة، الحبيب الجملي، عدم الحوار مع حزب قلب تونس، لعدم انتمائه لقوى الثورة، التي تقتصر، وفق المدونة النهضاوية المعلنة، على "النهضة" نفسها والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة.
يعلم خبراء السياسة التونسية والعارفون بخفاياها ولعبة مصالحها أن الارتكاز على عدم تشريك الفخفاخ "قلب تونس" مجرّد مسوغ للتعمية وإجهاض ولادة حكومة "النهضة" أولى بتكوينها وفق ما هو مستبطن في خطابها وبيانها للناس. أما السببان الحقيقيان فهما، من ناحية، عدم ثقتها في حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب، وهما حزبان راديكاليان، شريكان في الحكم، وهي التي تعودت بشراكة أحزاب نداء تونس وتحيا تونس والوطني الحر وغيرهم من التنظيمات السياسة خفيفة الوزن والمعنى، ممن لا يعطي أهمية للشفافية ومقاومة الفساد وللمسائل السيادية، ويشتركون مع "النهضة" كذلك في انحيازهم إلى الخيارات الاقتصادية النيو - ليبرالية التي انتهت إلى خيارات تنموية فاشلة، سمتها التدخل الأجنبي في القضايا الوطنية والمديونية العالية وانتشار البطالة والفقر والتضخم والجريمة المنظمة، ما يفترض في حكومة الفخفاخ تغييرها والحدّ من آثارها، وفق ما ورد في وثيقة التعاقد الحكومي. ومن ناحية أخرى، جموح "النهضة" الضارب للحكم والسلطة، وما يوفرانه من غنيمة ومكاسب ومنافع ومزايا، يبدو أنها ذاقت حلاوتها إبّان مختلف فترات حكمها منذ 2011، هذا بالإضافة إلى الأخطار التي تتهددها إذا ما آلت بعض الوزارات إلى أحزاب أخرى، وفتح فيها الوزراء المرتقبون تحقيقاتٍ جدّية، على غرار وزارة تكنولوجيا الاتصالات التي تتمسّك بها حركة النهضة إلى درجة أنها تكاد تجهض مسار تشكيل الحكومة برمته لأجلها، والذهاب إلى انتخاباتٍ سابقةٍ لأوانها، ستكون عالية الكلفة والمخاطر، ستواجه فيها حركة النهضة هذه المرة، علاوة على منافسيها التقليديين، الرئيس قيس سعيد وجمهوره الانتخابي الطامح إلى اجتياح البرلمان، وإيجاد التناغم الضروري بين مؤسّسات الحكم في تونس.
أجرى الفخفاخ مشاورات طويلة ومرهقة ومضنية مع مجموعة من الأحزاب السياسية، اتفق
يعلم خبراء السياسة التونسية والعارفون بخفاياها ولعبة مصالحها أن الارتكاز على عدم تشريك الفخفاخ "قلب تونس" مجرّد مسوغ للتعمية وإجهاض ولادة حكومة "النهضة" أولى بتكوينها وفق ما هو مستبطن في خطابها وبيانها للناس. أما السببان الحقيقيان فهما، من ناحية، عدم ثقتها في حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب، وهما حزبان راديكاليان، شريكان في الحكم، وهي التي تعودت بشراكة أحزاب نداء تونس وتحيا تونس والوطني الحر وغيرهم من التنظيمات السياسة خفيفة الوزن والمعنى، ممن لا يعطي أهمية للشفافية ومقاومة الفساد وللمسائل السيادية، ويشتركون مع "النهضة" كذلك في انحيازهم إلى الخيارات الاقتصادية النيو - ليبرالية التي انتهت إلى خيارات تنموية فاشلة، سمتها التدخل الأجنبي في القضايا الوطنية والمديونية العالية وانتشار البطالة والفقر والتضخم والجريمة المنظمة، ما يفترض في حكومة الفخفاخ تغييرها والحدّ من آثارها، وفق ما ورد في وثيقة التعاقد الحكومي. ومن ناحية أخرى، جموح "النهضة" الضارب للحكم والسلطة، وما يوفرانه من غنيمة ومكاسب ومنافع ومزايا، يبدو أنها ذاقت حلاوتها إبّان مختلف فترات حكمها منذ 2011، هذا بالإضافة إلى الأخطار التي تتهددها إذا ما آلت بعض الوزارات إلى أحزاب أخرى، وفتح فيها الوزراء المرتقبون تحقيقاتٍ جدّية، على غرار وزارة تكنولوجيا الاتصالات التي تتمسّك بها حركة النهضة إلى درجة أنها تكاد تجهض مسار تشكيل الحكومة برمته لأجلها، والذهاب إلى انتخاباتٍ سابقةٍ لأوانها، ستكون عالية الكلفة والمخاطر، ستواجه فيها حركة النهضة هذه المرة، علاوة على منافسيها التقليديين، الرئيس قيس سعيد وجمهوره الانتخابي الطامح إلى اجتياح البرلمان، وإيجاد التناغم الضروري بين مؤسّسات الحكم في تونس.