مرة أخرى يطل علينا صندوق النقد الدولي بعباءة المؤسسة الدولية التي تساعد الدول النامية على مواجهة أزماتها الاقتصادية المستعصية، المتمثلة حالياً في أزمة انتشار وباء كوفيد-19 وما ترتب عليها من تبعات مالية واقتصادية، ليقرر منح مصر قرضاً بعد الآخر، ضارباً عرض الحائط بمشكلات البلاد الحقيقية، بينما لا يعنيه إلا تحقيق أهدافه السياسية، واستثمار ما يتوفر له من أموال الدول الأعضاء.
أثبت الصندوق من جديد أنه غير معني بالمشكلات الحقيقية التي تواجهها مصر، والمتمثلة في استمرار تزايد العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وتزايد احتياجها للاقتراض الخارجي عاماً بعد عام، ومنحها قرضين تصل قيمتهما الإجمالية لما يقرب من 8 مليارات دولار، مقللاً من حجم العبء الملقى على الأجيال القادمة من جراء تلك الديون، ومتجاهلاً ضعف إيرادات النقد الأجنبي في بلدٍ لا تكفي كل إيراداته بالعملة الأجنبية، من تحويلات عاملين بالخارج وسياحة وقناة سويس وتصدير، لسداد فاتورة الواردات.
أثبت الصندوق من جديد أن قرارات الإقراض فيه لا يتم اتخاذها بناء على قدرة البلد المقترض على السداد، ولكن بناء على قوة تأثير الدول الداعمة له، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والسعودية.
تجاهل الصندوق أساسيات شروط الإقراض التي يفترض أن يأخذها في الاعتبار، وعلى رأسها وجود مصدر لسداد القرض بنفس نوع العملة المقترضة، واعتبر أن دعم الدولتين للقرار كافياً، وأنهما قادرتان على حل مشاكله في حالة تعثر مصر في السداد.
أثبت الصندوق من جديد أن قرارات الإقراض فيه لا يتم اتخاذها بناء على قدرة البلد المقترض على السداد، ولكن بناء على قوة تأثير الدول الداعمة له، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والسعودية
أثبت الصندوق أن اعتبارات إصلاح المالية العامة للدول التي يقرضها، وهي النقطة التي تحتل دائماً مرتبة متقدمة في كافة برامجه وتوصياته، ليست من أولوياته الحقيقية، حيث وافق على إقراض دولة تستحوذ خدمة الدين في ميزانيتها على ما يقرب من 80% من إيراداتها، بينما تلاشت إمكانات تقليص الإنفاق الحكومي على الدعم الذي لم يتبق منه إلا النذر اليسير، بعد أن تراجع بصورة واضحة إنفاق الدولة على دعم الخبز والمياه والطاقة، ضمن برنامج الإصلاح الذي فرضه اقتراضنا السابق من الصندوق.
أثبت الصندوق من جديد أن قرار الإقراض لا علاقة له بطبيعة النظام الذي يحكم في الدولة المقترضة، وأن النظم القمعية التي تقتل وتسجن وتعذب مواطنيها غير محرومة من دعم المؤسسة المالية الدولية، وأنه لا ضرورة للتساؤل عن الكيفية التي يتم بها التصرف في الأموال المقترضة، وأن انتشار الفساد وغياب آليات الرقابة والمحاسبة لا يحولان دون حصول الدول على القروض، ما دامت تلك القروض تخدم مصالح الولايات المتحدة والقوى المؤثرة في الصندوق، وتسمح له بالترويج للصورة التي يحاول فرضها على العالمين.
وأخيراً أثبت الصندوق من خلال إسراعه بإقراض مصر بعد مفاوضات لم تستغرق أياماً معدودة، وتجاهله الأرجنتين المفلسة ولبنان المنهار، أن تأزم أوضاع الدول لم ولن يكون أبداً هو المحرك الأساسي لقرارات الإقراض للصندوق، وأن الضغوط السياسية وحدها من الدول التي تمول هي التي تتحكم في توقيت التحرك، والبلد المستهدف، والمبلغ الممنوح.
في شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي، وبعد تخلفها عن سداد قيمة دفعة من السندات التي اشتراها مستثمرون عالميون وحان وقت سدادها، سجلت الأرجنتين الإفلاس التاسع لها في أقل من مائتي عام، ولم يحرك الصندوق ساكناً، لرفض الدول الكبرى ما جاء به صندوق الانتخابات، الذي استبدل الرئيس الليبرالي، المطيع للولايات المتحدة والصندوق موريسيو ماكري، بالرئيس الاشتراكي ألبرتو فرنانديز. لم تفرح الدول الكبرى بما حدث، وتوقف دعمها للدولة التي كان الصندوق قد منحها قبلها بعامٍ واحدٍ فقط أكبر قرض في تاريخه، بقيمة تجاوزت 56 مليار دولار.
وقتها التقيت أحد المديرين التنفيذيين بالصندوق، وسألته عما هم فاعلون مع الأرجنتين، التي لم تهنأ بعودتها للأسواق العالمية، وتمكنها من الاقتراض من جديد، رغم التاريخ الحافل بالإفلاسات، فكانت إجابته واضحة "لا شيء... سننتظر لنرى ماذا تريد الولايات المتحدة، وننفذه".
وبعد أقل من عشرين سنة من نجاحها المذهل في القضاء على مرض الملاريا أوائل الستينيات من القرن الماضي، تعرضت مدغشقر، الجزيرة الواقعة في المحيط الهندي في مواجهة الساحل الشرقي للقارة الإفريقية، لموجة جديدة من المرض، ساعد على انتشاره خلالها توقف الحكومة عن رش المبيدات اللازمة، وإغلاق 5 آلاف من أصل 8 آلاف مركز صحيّ حكومي في القرى الفقيرة، استجابة لطلبات صندوق النقد. وبالفعل نجحت الحكومة في تقليص إنفاقها الصحي وتخفيض عجز الموازنة، لكن جاء ذلك على حساب وفاة أكثر من عشرة آلاف مواطن بعد إصابتهم بالملاريا.
أثبتت المراجعات المستقلة التي تمت في أعقاب هذه الفترة الأليمة أن الحكومة اضطرت، بناء على التوصيات الواردة في برنامج التقشف الحكومي الذي وضعه خبراء صندوق النقد، إلى تخفيض إنفاقها على أدوية علاج الملاريا خلال الفترة من 1977 إلى 1988 بما تصل نسبته إلى 80%.
وخلال الفترة نفسها، تسبب برنامج الصندوق في تراجع قيمة العملة المحلية بصورة كبيرة، الأمر الذي تسبب في ارتفاع معدل التضخم، وتجميد أجور موظفي الحكومة، وهو ما أدى إلى تراجع مستويات معيشة نسبة كبيرة من المواطنين، وتراجع قدرتهم على شراء أدوية علاج الملاريا أو أمصال التطعيم ضده.
وفي تقرير الأطفال التابع للأمم المتحدة، جاء أن 80% من عائلات مدغشقر في ذلك الوقت لم تعد قادرة على توفير الغذاء لأبنائها، ناهيك عن شراء الدواء المطلوب.
لم يعلن صندوق النقد الدولي عن نفسه في أي وقت من الأوقات باعتباره المنظمة الخيرية، المدافعة عن حقوق الإنسان، ولم يدع أن متخذي القرار فيه من الملائكة. وحقيقة الأمر أنه مؤسسة مالية، تراعي مصالحها ومصالح الدول الكبرى، التي تستغلها أسوأ استغلال، في سبيل تحقيق أهدافها، ويحق لهم ذلك حتى لو كنا لا نفعله. لكن الدول التي تعتمد عليهم، وتهتدي بهديهم ترتكب جريمة في حق شعوبها، وإن كانت آثارها لا تظهر إلا على المدى الطويل، فالمتغطي بالصندوق مكشوف لا محالة، مهما طال وقت استمتاعه بالغطاء.