ويبدو أنّ التطورات المتسارعة في ليبيا دفعت الجزائر إلى تحسّس حدودها الشرقية الجنوبية، على ضوء الحرب الدائرة على تخوم العاصمة طرابلس بين مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وقوات حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، وبروز مؤشرات تدخّل عسكري أجنبي في هذا البلد، وسط ترتيبات مؤتمر برلين المقرّر بداية الشهر المقبل لحل الأزمة. وانعقد اجتماع مجلس الأمن القومي في الجزائر للمرة الأولى منذ ست سنوات. لكن قرار الرئيس عبد المجيد تبون عقده بشكل طارئ، ومناقشة الأزمة في ليبيا وعلى الحدود، والوضع في مالي، ضمن أول اجتماع رسمي يعقده بعد تسلمه السلطة قبل نحو أسبوع، وإعلانه إبقاء هذا المجلس رهن الاجتماع في أي وقت، وإعطائه الأولوية لملف خارجي على حساب الملفات الداخلية الساخنة، كلها عوامل تمثل رسالة إلى القوى الإقليمية بعودة الثقل الجزائري لشغل مساحته إقليمياً، خصوصاً في القضايا ذات الصلة المباشرة بالأمن القومي للبلاد، ولا سيما تلك التي تتلاعب بها دول لديها تصادم في المواقف والمصالح مع الجزائر في المنطقة، كفرنسا ومصر والإمارات من جهة، ومن جهة ثانية لطمأنة الرأي العام الداخلي بأنّ المشاكل السياسية الداخلية لن تكون على حساب الأمن القومي للبلاد.
في السياق، يرى المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية في جامعة تيبازة، قرب العاصمة الجزائرية، زهير بوعمامة، أنّ "التطورات الراهنة في ليبيا، ووعي القيادة السياسية الجديدة في الجزائر بخطورة الوضع هناك، دفعت إلى اتخاذ هذه الخطوات". ويوضح بوعمامة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "ليبيا هي امتحان حقيقي وجدي للجزائر، ولا يمكنها أن تفشل فيه، والاجتماع رسالة قوية للخارج والداخل بأنّ مرحلة جديدة بدأت، ستعيد الجزائر إلى أداء أدوارها الطبيعية في مجالها الحيوي، ولن تقبل باستبعادها من الترتيبات المقبلة في الملف الليبي، وبأن تكون هذه الترتيبات ضدها، وهي تملك أوراقاً حقيقية للتأثير في تطورات هذا الملف الاستراتيجي بالنسبة لأمنها ومصالحها الحيوية". ويضيف بوعمامة أنّ الاجتماع الأمني "هو أيضاً رسالة إلى الداخل لطمأنة الجزائريين بأنّ مؤسسات الدولة تعود للعمل بفعالية، ومن دون تأخير، وأن الرئيس المنتخب شرع في العمل على الملفات الشائكة".
ويتفق الكثير من المراقبين على أنّ التحرّك الجزائري بشأن الوضع في ليبيا جاء متأخراً نوعاً ما، خصوصاً أنّ الساحة الليبية تغصّ وتتدافع بالفاعلين الدوليين والإقليميين، وأنّ انسحابها في الفترة السابقة خدم مصالح دول أخرى، كمصر والإمارات، على حساب المصلحة الأمنية والسياسية للجزائر، المعنية أكثر من غيرها بأي تداعيات للأزمة الليبية. ويعزو المراقبون تأخّر التحرك الجزائري لاعتبارات تتعلق بعاملين، هما: مرض الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يمسك دستورياً وعملياً بكل خيوط العمل الدبلوماسي، وغيابه بشكل كامل عن المحافل الاقليمية والدولية منذ إبريل/ نيسان 2013، واستغراق الجزائر في وضعها الداخلي وفي صراعات وتحالفات المجموعات الحاكمة نتيجة مرض بوتفليقة وغموض الأفق. يضاف إلى هذا العامل، التزام الجزائر بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتمسكها بالموقف السياسي على هذا المستوى، من دون أن يتيح لها ذلك التفاعل ميدانياً مع أزمات المنطقة، وهو مبدأ سياسي ينسحب أيضاً على عامل دستوري يمنع الجيش الجزائري من أي عمل عسكري خارج البلاد.
ويعتقد مدير كلية العلوم السياسية في ورقلة، جنوبي الجزائر، البروفيسور قوي بوحانية، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "الجزائر تأخرت كثيراً في التحرّك، لأن الرئيس بوتفليقة وضع كل شيء في الثلاجة، وجمّد الجهاز الدبلوماسي وأعطب الأجهزة الخارجية. ومع هذا الوضع كان وزير الخارجية مجرد موظف لدى الرئاسة ولا يملك أي هامش للمناورة، ولذلك لاحظنا أنّ الإمارات ومصر السيسي تلعب في ليبيا مستغلة غياب الجزائر". ويوضح بوحانية، المتخصص في ملف الجغرافيا الأمنية والسياسية، أنّ "الظروف والتطورات في ليبيا، كما في غيرها من دول الجوار، تفرض على الجزائر مراجعة مبدأ عدم التدخل، وكذلك مراجعة عقيدة الجيش، من جيش دفاعي إلى جيش يحمي الأمن الجزائري حيثما كان وراء الحدود".
وتضيف الأزمة الليبية المتصاعدة ثقلاً آخر على الجغرافيا السياسية والأمنية المحيطة بالجزائر. إذ تجد الأخيرة نفسها في دائرة شبه مكتملة من النار، بسبب الوضع الهشّ في دول الجوار والاضطرابات الأمنية والفراغ الصحراوي في أغلب هذه الدول، على غرار التحركات والوجود المستمر للمجموعات الإرهابية في كل من شمال مالي وشمال النيجر، اللتين تعرفان في الفترة الأخيرة تصاعداً في عمليات هذه الجماعات، أو مع موريتانيا وحرب المخدرات على الحدود مع المغرب والجماعات الإرهابية المنتشرة على الحدود التونسية مع الجزائر.
لكن الحالة الليبية وحجم التدخلات الدولية، تجعل الملف الليبي الأكثر أولوية على طاولة القيادة السياسية والعسكرية في الجزائر. ويذهب مدير القسم الدولي في صحيفة "الخبر"، كبرى الصحف الجزائرية، رضا شنوف، إلى حدّ وصف ما يدور في ليبيا وحجم التدخلات الدولية في الجارة الشرقية للجزائر بـ"حرب عالمية مصغرة". ويؤكد شنوف في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ الجزائر "ستكون مجبرة على تحريك أوراقها والرمي بكل ثقلها الدبلوماسي في ليبيا، لأن غيابها عن الحل يعني أن تكون مجبرة على قبول الحلول التي يضعها الآخرون، والتي طبعاً لن تكون في صالح الجزائر ولا في صالح المنطقة". ويضيف أنّ "أكبر إشكال وقع في ليبيا هو أنّ حفتر فتح الباب أمام التدخل الأجنبي، ورهن إرادة الليبيين إلى الخارج، وأدخل فواعل خارجية في المنطقة، والتي ستغيّر الكثير من ملامح هذه الدولة في المستقبل وفي طبيعة العلاقات والخريطة الجيوسياسية للمنطقة ككل، من دون إغفال تأثيرات الملف الليبي على الوضع في الساحل، والذي هو إشكال كبير يؤرق الجزائر على الجبهة الجنوبية"، متابعاً: "ما يقوم به حفتر ليس في صالح لا الليبيين ولا في صالح دول شمال أفريقيا، ولا منطقة الساحل".
ويعتبر شنوف أنّ "الاستفاقة السياسية للجزائر بشأن الملف الليبي وتحسّس حدودها الشرقية الجنوبية، لها علاقة بالمخاوف الجدية بشأن كلفة محتملة ستتحملها جراء تداعيات الوضع في ليبيا"، مضيفاً "هذه الاستفاقة جاءت متأخرة جداً لأسباب موضوعية، إذ كان هناك شبه فراغ في مؤسسة الرئاسة بسبب مرض بوتفليقة، لكن استفاقة متأخرة أفضل من عدم التحرك، والوضع السياسي في الجزائر منذ مرض بوتفليقة، جعل الدولة منغلقة ولا تعطي أهمية لما يجري حولها، خصوصاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة". ويتابع "أظنّ أنّ تصريح الرئيس تبون خلال أدائه القسم الدستوري، ثمّ عقده للمجلس الأمني الأعلى، يكشف عن إعادة ترتيب الأوراق، والاهتمام بما يجري حولنا، خصوصاً في الملف الليبي وما يجري في الساحل. فما يجري في ليبيا هو حرب عالمية مصغرة على حدودنا وانعكاساتها كبيرة على الجزائر، أمنياً وجيوسياسياً واقتصادياً".
وتنحاز الجزائر إلى حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، على أساس أنها الحكومة المعترف بها دولياً، وسبق أن اعترضت على هجوم حفتر على طرابلس، وفق ما عبّر عنه وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم في شهر يونيو/ حزيران الماضي. كما تدعم الجزائر مسعى إجراء حوار ليبي - ليبي، ومصالحة وطنية، والحفاظ على وحدة البلاد. وهي ترتبط بحدود برية تمتد إلى أكثر من 900 كيلومتر مع ليبيا، وقد نشرت في وقت سابق 30 ألف مقاتل لمراقبة هذه الحدود. كذلك، تتعاون السلطات الجزائرية مع قادة المناطق والقبائل الليبية على الحدود لضبط الأمن ومنع تحرك المجموعات الإرهابية وأنشطة تهريب السلاح والبشر والمخدرات. وتشير تقارير أمنية جزائرية إلى أنّ كميات كبيرة من الأسلحة التي حجزها الجيش في مخابئ في الصحراء في وقت سابق، بما فيها أسلحة ثقيلة مضادة للدبابات والطائرات، مصدرها ليبيا، إذ تقوم شبكات تهريب بنقلها عبر الصحراء الجزائرية إلى مناطق شمال مالي والنيجر وغرب أفريقيا لبيعها هناك.