اتخذت الحكومة المصرية عدداً من القرارات الاقتصادية القاسية في إطار تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي، وتنفيذ اشتراطات صندوق النقد الدولي بتخفيض الدعم الموجه للطاقة والخدمات، ومؤخراً زادت أسعار الطاقة من كهرباء ومحروقات.
وبهذه الزيادات يمكن القول إن السلطة مستمرة في طريق التحرير الاقتصادي الكامل، لتبيع السلع وتقدم الخدمات دون دعم، مما يشكل خطورة بالغة على معيشة ذوي الدخول المحدودة الذين لا تكفي دخولهم احتياجاتهم الأساسية، والذين يشكلون نحو 30% من السكان حسب المؤشرات الرسمية.
وإذا وضعنا في الاعتبار أن متوسط إنفاق الأسرة المصرية في العام 36 ألف جنيه، فهذا يعني أن الزيادات الأخيرة في أسعار الطاقة وما يترتب عليها من آثار في زيادة أغلب السلع ستزيد الهوة ما بين مستوى الدخل وأسعار السلع والخدمات، وإن كانت نسبة التضخم قد تجاوزت خلال يونيو/ حزيران الماضي 30.9% فإنها مرشحة مستقبلاً للزيادة حسب بعض التقديرات إلى 34%.
ولو أخذنا في الاعتبار نمط الاستهلاك للأسر الفقيرة والذي يوجه أغلبه إلى شراء السلع الغذائية، فإن الأزمة المعيشية لهؤلاء سوف تزداد صعوبة وبؤساً، خاصة وأن الأرقام الرسمية تشير إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية عموماً واللحوم والدواجن حوالى 38%، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الخضر والفاكهة بنسب متفاوتة تجاوزت أغلبها نسبة 35% قياسا بالعام الماضي وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
وللحقيقة، ليست أزمة غلاء الأسعار وليدة تلك القرارات الأخيرة فحسب، ولكنها نتاج تراكمي من تطبيق سياسات اقتصادية خاطئة، فأسباب الغلاء متعددة منها تكلفة الإنتاج المباشرة كالخامات وغيرها من المستلزمات، وكذلك التكاليف غير المباشرة كالنقل، والسياسات النقدية كتعويم الجنيه.
وقبل كل ذلك تأتي أزمة الاقتصاد الهيكلية، والمرتبطة بضعف الإنتاج، وخاصة في مجال السلع والصناعات الغذائية والتي انسحبت منها الدولة، ويسيطر عليها قلة من رجال الأعمال. ويتم الاعتماد على الاستيراد لتغطية الطلب ليزيد عجز الميزان التجاري، الأمر الذي ينعكس على أزمة الموازنة ويخفض الاحتياطي النقدي.
على جانب آخر، يحتكر بعض رجال الأعمال استيراد بعض السلع ويتحكمون في أسعارها، أضف إلى ذلك أن اتباع الدولة لسياسة التحرير الاقتصادي القائم على عدم تدخل الدولة في الإنتاج أو ضبط السوق وتحديد الأسعار، يزيد فوضى السوق ويرفع الأسعار أيضاً.
وإن كانت الدولة لا تقوم بتخطيط الاستثمارات وتحديد ما يتطلبه المجتمع والسوق من منتجات وسلع، فإن ذلك يكمل الصورة للاقتصاد المأزوم، حيث تبقى هناك احتياجات لا تتم تلبيتها ولا يتم الاستثمار فيها، مع تركز للمستثمرين في القطاعات الأكثر ربحاً بغض النظر عن أهميتها ومدى احتياج السوق لها.
على سبيل المثال، تقل الاستثمارات في مجال الإنتاج الزراعي، وإنتاج اللحوم أو تربية الدواجن، بينما ينتعش القطاع العقاري، وهذا النمط الاقتصادي يؤثر على الأسعار وفرص العمل.
ويمكننا هنا رصد بعض تأثيرات القرارات الأخيرة على بعض أوجه العملية الإنتاجية في بعض القطاعات وعلى أسعار السلع والخدمات في القطاع الزراعي، وأسعار المنتجات الزراعية، وكذا قطاع النقل والمواصلات والمشروعات الصغيرة والعمالة.
أولاً، سيؤثر ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء على الإنتاج الزراعي مما ينعكس على أسعار السلع والمنتجات الزراعية، من حبوب وفاكهة وخضراوات وغيرها من السلع المرتبطة بالصناعات الغذائية، كمنتجات الألبان او الكتان والغزل والنسيج، حيث يؤثر ارتفاع أسعار الوقود على تكلفة عملية ري الأراضي الزراعية، ما يرفع تكلفة الإنتاج بشكل مباشر وبالتالي ترتفع أسعار السلع المختلفة، وكذلك ينطبق الأمر على الآلات الزراعية من محاريث وآلات حصاد ونقل.
أما في ما يخص مستلزمات الزراعة الأخرى فإنها ستتأثر بتلك الزيادات أيضاً. على سبيل المثال تعتمد بعض الأسمدة في إنتاجها على الغاز الطبيعي وبعض الأنواع الأخرى من الوقود كمكون إنتاجي. وإذا أضفنا تكلفة النقل والتصنيع وارتفاع أسعار الكهرباء على تشغيل الماكينات، فيمكننا ترقب موجة جديدة من غلاء أسعار الأسمدة، الأمر الذي يتحمله الفلاحون، ويُحمَّل جزء منه على المستهلك.
وبالتالي يمكن التأكيد أن ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية كلها سيستمر، خاصة مع تراجع دعم الدولة للفلاحين منذ 2014 والذي انخفض في موازنة العام الحالي 2017/2018 إلى أدنى مستوياته، ليصل إلى مليار جنيه بينما كان في موازنة العام الماضي 5 مليارات جنيه... ما يدفعنا للتساؤل: لصالح من تخرب الزراعة المصرية وترتفع أسعار السلع من خضروات وفاكهة وغيرها من سلع وصناعات تعتمد على الإنتاج الزراعي؟
ثانياً، يؤثر ارتفاع أسعار الوقود على أسعار النقل والمواصلات عموماً، سواء كان المواطن يستقل وسيلة مواصلات عامة أم خاصة. ويأتي في هذا الإطار التمهيد الحكومي بتكرار زيادة أسعار المترو والقطارات وربما أتوبيسات النقل العام. الأمر الذي يعني أن كل القطاعات التي تعتمد على النقل والمواصلات في تقديم خدمات أو بيع السلع سوف تتأثر بهذه الزيادة ومنها على سبيل المثال خدمات قطاع السياحة، إضافة إلى تكلفة أسعار الكهرباء الجديدة والتي يخطط أن ترتفع سنوياً في ذات التوقيت بالتزامن مع السنة المالية الجديدة وإقرار الموازنة.
ثالثاً، ستؤثر الزيادات الجديدة على أصحاب المشروعات الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة، وكذلك على مستويات العمالة في السوق وخاصة العمالة غير المنتظمة. فمع زيادة معدلات التضخم يزداد ركود السوق، الأمر الذي ينعكس على العمالة ويحد من فرص التشغيل. وسيتأثر كذلك أصحاب المشروعات الصغيرة بهذه الزيادات في ظل ارتفاع أسعار المواد الخام، مما يشكل خطورة على استمرار مشروعاتهم التي تجد منافسة من مافيات الاستيراد.
(كاتب وباحث مصري)
اقــرأ أيضاً
وإذا وضعنا في الاعتبار أن متوسط إنفاق الأسرة المصرية في العام 36 ألف جنيه، فهذا يعني أن الزيادات الأخيرة في أسعار الطاقة وما يترتب عليها من آثار في زيادة أغلب السلع ستزيد الهوة ما بين مستوى الدخل وأسعار السلع والخدمات، وإن كانت نسبة التضخم قد تجاوزت خلال يونيو/ حزيران الماضي 30.9% فإنها مرشحة مستقبلاً للزيادة حسب بعض التقديرات إلى 34%.
ولو أخذنا في الاعتبار نمط الاستهلاك للأسر الفقيرة والذي يوجه أغلبه إلى شراء السلع الغذائية، فإن الأزمة المعيشية لهؤلاء سوف تزداد صعوبة وبؤساً، خاصة وأن الأرقام الرسمية تشير إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية عموماً واللحوم والدواجن حوالى 38%، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الخضر والفاكهة بنسب متفاوتة تجاوزت أغلبها نسبة 35% قياسا بالعام الماضي وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
وللحقيقة، ليست أزمة غلاء الأسعار وليدة تلك القرارات الأخيرة فحسب، ولكنها نتاج تراكمي من تطبيق سياسات اقتصادية خاطئة، فأسباب الغلاء متعددة منها تكلفة الإنتاج المباشرة كالخامات وغيرها من المستلزمات، وكذلك التكاليف غير المباشرة كالنقل، والسياسات النقدية كتعويم الجنيه.
وقبل كل ذلك تأتي أزمة الاقتصاد الهيكلية، والمرتبطة بضعف الإنتاج، وخاصة في مجال السلع والصناعات الغذائية والتي انسحبت منها الدولة، ويسيطر عليها قلة من رجال الأعمال. ويتم الاعتماد على الاستيراد لتغطية الطلب ليزيد عجز الميزان التجاري، الأمر الذي ينعكس على أزمة الموازنة ويخفض الاحتياطي النقدي.
على جانب آخر، يحتكر بعض رجال الأعمال استيراد بعض السلع ويتحكمون في أسعارها، أضف إلى ذلك أن اتباع الدولة لسياسة التحرير الاقتصادي القائم على عدم تدخل الدولة في الإنتاج أو ضبط السوق وتحديد الأسعار، يزيد فوضى السوق ويرفع الأسعار أيضاً.
وإن كانت الدولة لا تقوم بتخطيط الاستثمارات وتحديد ما يتطلبه المجتمع والسوق من منتجات وسلع، فإن ذلك يكمل الصورة للاقتصاد المأزوم، حيث تبقى هناك احتياجات لا تتم تلبيتها ولا يتم الاستثمار فيها، مع تركز للمستثمرين في القطاعات الأكثر ربحاً بغض النظر عن أهميتها ومدى احتياج السوق لها.
على سبيل المثال، تقل الاستثمارات في مجال الإنتاج الزراعي، وإنتاج اللحوم أو تربية الدواجن، بينما ينتعش القطاع العقاري، وهذا النمط الاقتصادي يؤثر على الأسعار وفرص العمل.
ويمكننا هنا رصد بعض تأثيرات القرارات الأخيرة على بعض أوجه العملية الإنتاجية في بعض القطاعات وعلى أسعار السلع والخدمات في القطاع الزراعي، وأسعار المنتجات الزراعية، وكذا قطاع النقل والمواصلات والمشروعات الصغيرة والعمالة.
أولاً، سيؤثر ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء على الإنتاج الزراعي مما ينعكس على أسعار السلع والمنتجات الزراعية، من حبوب وفاكهة وخضراوات وغيرها من السلع المرتبطة بالصناعات الغذائية، كمنتجات الألبان او الكتان والغزل والنسيج، حيث يؤثر ارتفاع أسعار الوقود على تكلفة عملية ري الأراضي الزراعية، ما يرفع تكلفة الإنتاج بشكل مباشر وبالتالي ترتفع أسعار السلع المختلفة، وكذلك ينطبق الأمر على الآلات الزراعية من محاريث وآلات حصاد ونقل.
أما في ما يخص مستلزمات الزراعة الأخرى فإنها ستتأثر بتلك الزيادات أيضاً. على سبيل المثال تعتمد بعض الأسمدة في إنتاجها على الغاز الطبيعي وبعض الأنواع الأخرى من الوقود كمكون إنتاجي. وإذا أضفنا تكلفة النقل والتصنيع وارتفاع أسعار الكهرباء على تشغيل الماكينات، فيمكننا ترقب موجة جديدة من غلاء أسعار الأسمدة، الأمر الذي يتحمله الفلاحون، ويُحمَّل جزء منه على المستهلك.
وبالتالي يمكن التأكيد أن ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية كلها سيستمر، خاصة مع تراجع دعم الدولة للفلاحين منذ 2014 والذي انخفض في موازنة العام الحالي 2017/2018 إلى أدنى مستوياته، ليصل إلى مليار جنيه بينما كان في موازنة العام الماضي 5 مليارات جنيه... ما يدفعنا للتساؤل: لصالح من تخرب الزراعة المصرية وترتفع أسعار السلع من خضروات وفاكهة وغيرها من سلع وصناعات تعتمد على الإنتاج الزراعي؟
ثانياً، يؤثر ارتفاع أسعار الوقود على أسعار النقل والمواصلات عموماً، سواء كان المواطن يستقل وسيلة مواصلات عامة أم خاصة. ويأتي في هذا الإطار التمهيد الحكومي بتكرار زيادة أسعار المترو والقطارات وربما أتوبيسات النقل العام. الأمر الذي يعني أن كل القطاعات التي تعتمد على النقل والمواصلات في تقديم خدمات أو بيع السلع سوف تتأثر بهذه الزيادة ومنها على سبيل المثال خدمات قطاع السياحة، إضافة إلى تكلفة أسعار الكهرباء الجديدة والتي يخطط أن ترتفع سنوياً في ذات التوقيت بالتزامن مع السنة المالية الجديدة وإقرار الموازنة.
ثالثاً، ستؤثر الزيادات الجديدة على أصحاب المشروعات الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة، وكذلك على مستويات العمالة في السوق وخاصة العمالة غير المنتظمة. فمع زيادة معدلات التضخم يزداد ركود السوق، الأمر الذي ينعكس على العمالة ويحد من فرص التشغيل. وسيتأثر كذلك أصحاب المشروعات الصغيرة بهذه الزيادات في ظل ارتفاع أسعار المواد الخام، مما يشكل خطورة على استمرار مشروعاتهم التي تجد منافسة من مافيات الاستيراد.
(كاتب وباحث مصري)