06 فبراير 2021
في أحوال السجون المصرية
في زنزانةٍ عرضها ثمانين سنتيمترا، وطولها لا يتعدّى مترين ونصف المتر، قضيت مع 19 من زملائي المعتقلين الشهر الأول من الاعتقال. كان العدد ينقص أحيانًا ويزيد أحيانًا أخرى، حتى وصلنا إلى 23 في زنزانة كهذه لا يدخلها الهواء إلا من نافذةٍ مُقفلة، بسلك شائك في أعلى الزنزانة، وليس فيها مصدر للضوء إلا من خارجها، إضافة إلى صنبورٍ كان مصدر الماء الذي ينقطع أكثر مما يأتي، وحفرة لقضاء الحاجة يسمونها مجازًا "حمّاما". كان هذا حالنا في الأيام الثلاثين الأولى من الاعتقال في قسم شرطة كفر الدوار في شمال مصر في يناير/ كانون الثاني 2014، قبل أن تبدأ رحلة طويلة من التنقّل بين أماكن الاحتجاز والسجون العمومية التي لم تقلّ كثيرًا في تكدّسها حتى تناسينا كيفية نوم البشر على ظهورهم، وكان الأمر آنذاك يزداد سوءًا في واقع السجون المصرية، ولم يكن نظام عبد الفتاح السيسي قد رسخ في وحشيته المستبدة، مثلما هو الحال في السنوات الأخيرة. كان التكدّس، من تجربتي الشخصية، شعورًا لا أستطيع وصفه بالكتابة، لا يمكن لأحد أن يعيه إلا من عايش هذه المحنة، وإن أبرزت التسريبات من داخل مقار الاحتجاز والسجون العمومية ولو شقًا خفيفًا من مسألة تكدّس المعتقلين السياسيين في السجون المصرية، وأظهرت كيف تتكوّم الأجساد على الأجساد، وينام المعتقلون ملتصقين ببعضهم بعضا بشكل غير إنساني، يصيبهم بالاختناق في أشهر الصيف
وعلى مرّ السنوات السبع، منذ بدأت حملات الاعتقال الوحشية بعد انقلاب 2 يوليو/ تموز 2013، ارتُكبت كل الجرائم بحق المعتقلين السياسيين، من كبيرهم إلى صغيرهم، من النخب المعارضة إلى مؤيدي النظام سابقًا. الكل ناله ما ناله من القمع وسياسات العقاب غير القانونية في السجون وفق ما تراه نظرية السجّان، إلا أن مسألة "تكديس الزنازين" باتت محصورة بالمعتقلين "العاديين" دون النخب التي تقطع الزنازين الانفرادية في سجن العقرب "شديد الحراسة 992" في أجسادهم، وتذيقهم صنوفًا أخرى من العذاب الجسدي والنفسي، تجعل البرد سبيلًا إلى موتهم!
السجون المصرية في عهد السيسي مزيج من صنوف الموت، مات داخلها أكثر من ألف معتقل منذ 2013 من التعذيب الجسدي والنفسي والإهمال الطبي، منهم 14 في العام الحالي
(2020)، حتى كتابة هذه السطور. وباتت سياسة تكديس السجون شيئًا عاديًا، حتى بعد بناء ما يقرب من 30 سجنا في عهد السيسي، منها سجون كبيرة في الحجم والاستيعاب.
مع تفشّي وباء كورونا (كوفيد 19) منذ أسابيع، وبعد طول إنكار من السلطات المصرية وجود حالات مصابة داخل مصر، على الرغم من إصابة خارجين منها بالفيروس، وتسابق الدول لإعلان عدد المصابين المصريين، أُعلنت مصر، من دول عربية وغير عربية، دولة يحظر السفر منها وإليها، وباتت الفضيحة غير قابلة للستر، وما زال أغلب الظن أن السلطة الحالية لا تدري من أمر مصابي كورونا شيئًا، وأن الدول التي تستقبل الخارجين من مصر تدري أمرها أكثر من نظام السيسي نفسه! فأصبح أمر انتشار الوباء حقيقيًا في مصر، وأن مسألة إعلان المصابين به سياسية بامتياز. ينتظر نظام السيسي أن تحلّ بالمصريين الكوارث، وأن يسلك دأب النظم الشمولية في تكتمها على كل شيء، بحجّة الأمن القومي والمكتسبات الاقتصادية المنهارة أساسًا في ظل حكمه، إلا أنه تخطى في الوحشية نظام إيران الشمولي الذي قرر الإفراج عن 70 ألف سجين، حتى لا يتفشّى المرض في السجون الإيرانية، وتجاهل وسيستمر في تجاهل نداءات المنظمات الحقوقية التي أصدرت بيانًا مشتركًا في 10 مارس/ آذار الجاري، وكل أصحاب الضمائر، بتنفيذ المطلب الإنساني بالإفراج عن المعتقلين حتى لا تقع كارثة أكثر خطورة تتمثل بتفشّي الوباء داخل السجون التي تلتصق فيها الأجساد
بالأجساد، ولا يدري أحد الكم الحقيقي من الانتهاكات التي تطاول المعتقلين إلا قليلًا.
الأنكى من تجاهل السيسي كل مطالب الإفراج عن المعتقلين السياسيين (منصوص عليه في المواد 34 و35 و36 و37 من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956) منع الزيارات، المأساوية في كثير من حالاتها، والتي لا تتم بشكل إنساني في أغلب السجون المصرية، وهو قرار زاد فيه من تنكيله الانتقامي بالمعتقلين السياسيين الذي ينبع من طبيعة عقلية العسكر المتمادية في الإنكار والرفض في السلطة، ولن يعفي هذا القرار السجون من تفشّي المرض في حال انتقاله بشكل مشابه لإيران بين المدن الكُبرى، فالسجون المصرية يعمل فيها آلافٌ من قوات الأمن والسجّانين "يُسمّون بلغة السجون شاويش"، يخالطون معظم المعتقلين عن طريق فتح أبواب الزنازين وإغلاقها مرات ومرات في اليوم الواحد. ولذا لا تفسير يحتمله العقل من قرار منع الزيارات سوى أنه إمعان في العقاب وزيادة في التنكيل بخصوم السيسي الذين حلموا بوطن حر ديمقراطي، لا تتحكم فيه عقلية العسكر، فالنظام الذي يتعنت عن جهل في إعلان المصابين بمرض أُعلن وباء عالميا لن يسعى بأي شكل من الإنسانية للإفراج عن معتقلين سياسيين لم يقترفوا جُرمًا سوى أنهم حلموا بوطن ديمقراطي حر تسود فيه إرادة الشعب.
يتعامل السيسي ونظامه مع تفشي الإصابة بفيروس كورونا من وجهة سياسية تتناغم مع نظام مرتجف لا يتمتع بشرعية شعبية. يخاف السخط الشعبي الذي قد يُترجم إلى تحرّك شعبي في الشوارع والميادين يصرخ من إهمال النظام الذي يتحكم في الدولة المصرية ولا يأبه بشعبه، كما حدث في مفاجأة 20 سبتمبر/ أيلول (2019)، والنظام الذي أتى بالدماء لن يقدّم قيم الرحمة والتضامن والعدالة على بقائه في الحكم.
السجون المصرية في عهد السيسي مزيج من صنوف الموت، مات داخلها أكثر من ألف معتقل منذ 2013 من التعذيب الجسدي والنفسي والإهمال الطبي، منهم 14 في العام الحالي
مع تفشّي وباء كورونا (كوفيد 19) منذ أسابيع، وبعد طول إنكار من السلطات المصرية وجود حالات مصابة داخل مصر، على الرغم من إصابة خارجين منها بالفيروس، وتسابق الدول لإعلان عدد المصابين المصريين، أُعلنت مصر، من دول عربية وغير عربية، دولة يحظر السفر منها وإليها، وباتت الفضيحة غير قابلة للستر، وما زال أغلب الظن أن السلطة الحالية لا تدري من أمر مصابي كورونا شيئًا، وأن الدول التي تستقبل الخارجين من مصر تدري أمرها أكثر من نظام السيسي نفسه! فأصبح أمر انتشار الوباء حقيقيًا في مصر، وأن مسألة إعلان المصابين به سياسية بامتياز. ينتظر نظام السيسي أن تحلّ بالمصريين الكوارث، وأن يسلك دأب النظم الشمولية في تكتمها على كل شيء، بحجّة الأمن القومي والمكتسبات الاقتصادية المنهارة أساسًا في ظل حكمه، إلا أنه تخطى في الوحشية نظام إيران الشمولي الذي قرر الإفراج عن 70 ألف سجين، حتى لا يتفشّى المرض في السجون الإيرانية، وتجاهل وسيستمر في تجاهل نداءات المنظمات الحقوقية التي أصدرت بيانًا مشتركًا في 10 مارس/ آذار الجاري، وكل أصحاب الضمائر، بتنفيذ المطلب الإنساني بالإفراج عن المعتقلين حتى لا تقع كارثة أكثر خطورة تتمثل بتفشّي الوباء داخل السجون التي تلتصق فيها الأجساد
الأنكى من تجاهل السيسي كل مطالب الإفراج عن المعتقلين السياسيين (منصوص عليه في المواد 34 و35 و36 و37 من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956) منع الزيارات، المأساوية في كثير من حالاتها، والتي لا تتم بشكل إنساني في أغلب السجون المصرية، وهو قرار زاد فيه من تنكيله الانتقامي بالمعتقلين السياسيين الذي ينبع من طبيعة عقلية العسكر المتمادية في الإنكار والرفض في السلطة، ولن يعفي هذا القرار السجون من تفشّي المرض في حال انتقاله بشكل مشابه لإيران بين المدن الكُبرى، فالسجون المصرية يعمل فيها آلافٌ من قوات الأمن والسجّانين "يُسمّون بلغة السجون شاويش"، يخالطون معظم المعتقلين عن طريق فتح أبواب الزنازين وإغلاقها مرات ومرات في اليوم الواحد. ولذا لا تفسير يحتمله العقل من قرار منع الزيارات سوى أنه إمعان في العقاب وزيادة في التنكيل بخصوم السيسي الذين حلموا بوطن حر ديمقراطي، لا تتحكم فيه عقلية العسكر، فالنظام الذي يتعنت عن جهل في إعلان المصابين بمرض أُعلن وباء عالميا لن يسعى بأي شكل من الإنسانية للإفراج عن معتقلين سياسيين لم يقترفوا جُرمًا سوى أنهم حلموا بوطن ديمقراطي حر تسود فيه إرادة الشعب.
يتعامل السيسي ونظامه مع تفشي الإصابة بفيروس كورونا من وجهة سياسية تتناغم مع نظام مرتجف لا يتمتع بشرعية شعبية. يخاف السخط الشعبي الذي قد يُترجم إلى تحرّك شعبي في الشوارع والميادين يصرخ من إهمال النظام الذي يتحكم في الدولة المصرية ولا يأبه بشعبه، كما حدث في مفاجأة 20 سبتمبر/ أيلول (2019)، والنظام الذي أتى بالدماء لن يقدّم قيم الرحمة والتضامن والعدالة على بقائه في الحكم.
مقالات أخرى
04 يناير 2021
26 سبتمبر 2020
15 اغسطس 2020