19 أكتوبر 2019
في أسباب اتفاق الهدنة في سورية
بغض النظر عن فرص نجاح هذا الاتفاق وتطبيقه، فإن السؤال المطروح هو ما الذي دفع الولايات المتحدة وروسيا إلى التوصل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في سورية في هذا الظرف بالذات، على الرغم من سنوات من الحرب الأهلية، وحوالي سنتين من التدخل الأجنبي في البلاد من خلال الضربات الجوية. هناك خمسة عوامل، من المرجح أن تكون الأكثر تفسيراً للتوصل إلى هذا الاتفاق.
أولاً، مخاطر اشتباكٍ بالخطأ بين المقاتلات الغربية والروسية في المجال الجوي السوري. وتعد حادثة إسقاط سلاح الجو التركي المقاتلة الروسية إنذاراً قوياً لمخاطر الاشتباك أو الصدام هذه. ثم لا يُنسى أنه، بصرف النظر عن التنديد بما سمّته الولايات المتحدة التدخل الروسي في سورية، فإن أول تحرك أميركي كان الاتفاق مع روسيا على مذكرةٍ عسكريةٍ ميدانيةٍ لتفادي أي احتكاك أو اشتباك بالخطأ بين مقاتلاتهما العسكرية في الأجواء السورية، في ظل تزايد عدد الطلعات الجوية ووتيرة القصف.
ثانياً، بعد أشهر من القصف الجوي المكثف، الغربي والروسي، بدعوى مكافحة الإرهاب، ولكن لكل طرف حساباته وأهدافه، اتضح جلياً أن استمرار المشهد الحالي يخدم التنظيمات الإرهابية، لأنه يخلط الأوراق، ويجعل القصف الجوي غير مجدٍ في أغلب الأحيان، فضلاً عن مساهمته في حركة مغادرة السوريين بلادهم قسراً، كما يعيق القصف عمل المنظمات الإنسانية وجمعيات الإغاثة الدولية. أضف إلى ذلك استعصاء الحل العسكري: لم تتمكّن الأطراف الدولية المتناحرة في سورية، عبر حلفائها، أو من خلال الضربات الجوية، من تغيير موازين القوى ميدانياً، والتي تبدو متكافئة بعض الشيء، فلا النظام قادر على سحق المعارضة، ولا الأخيرة قادرة على إسقاطه. ومشهد "لا منتصر ولا منهزم" لا يتوافق والاستراتيجيات الدولية المتنافسة في سورية. ومع تعقد المشهد العسكري السوري، واختلاط الحابل بالنابل، أصبح من الصعب، أحياناً، فهم العمليات العسكرية في البلاد وتقييمها. من ثم كانت الحاجة إلى هدنةٍ رسميةٍ، برعاية القوتين الأميركية والروسية لعزل العناصر الإرهابية عن غير الإرهابية، ومحاولة غربلة المشهد السياسي السوري، علَّ معالم التنظيمات المتعددة التوجهات والنشاطات تتضح أكثر. وبالنظر إلى كل هذه العوامل، اقتنعت القوتان بضرورة التوصل إلى اتفاقٍ يسمح لهما بتوقيف "المباراة"، ولو إلى حين محاولة ترتيب بيت، بل وبيوت حلفائهما المحليين، بمنحهم متنفّساً زمنياً لاسترجاع قواهم، ربما استعداداً لجولةٍ مقبلة، ومحاولة لاحتواء التنظيمات الإرهابية، بتحديد موقعها وتموقعها بشكلٍ أحسن، خصوصاً في حال التوصل إلى تهدئةٍ على الجبهات الأخرى.
ثالثاً، بلغت حدة الاستقطاب الإقليمي مستوياتٍ عاليةً، نتيجة التصعيد السياسي بين دول المنطقة،
وفي مقدمتها السعودية وتركيا وإيران، وهو تصعيد يجد تعبيراته في حربٍ إقليمية باردة، فضلاً عن حربين ساخنتين (سورية واليمن). لذا، تسعى الفواعل الكبرى من خلال هذه الهدنة إلى تهدئة الأمور، عبر اتفاق لوقف إطلاق النار، كآلية لإدارة الصراع في الراهن، وكآلية تمهيدية للمفاوضات بين الأطراف المتناحرة محلياً، مع إقصاء التنظيمات الإرهابية من أي حوار سياسي. وبالطبع، لهذا الاستقطاب الإقليمي تداعيات على بعض الدول، فالتوتر بين حزب الله اللبناني والسعودية جعل الأخيرة تعلن وقف تمويلها تسليح الجيش اللبناني (تتولى السعودية تسديد ثمن شحناتٍ من الأسلحة الفرنسية للجيش الفرنسي). وهذا أمر لا يخدم لا المصالح الفرنسية (المادية والسياسية) ولا الأميركية (السياسية). فللقوتين مصلحة في استقرار لبنان، الحلقة الأضعف في المنطقة، خصوصاً في هذا الظرف الأمني العسير.
رابعاً، تهاوي أسعار النفط يرهن تمويل الحرب في سورية، وتتخوّف مختلف الأطراف، لا سيما الغربية، من تقليص بعض دول الخليج تمويلها المجهود الحربي للمعارضة السورية المسلحة، خصوصاً أن هذه الدول متورّطة في حربين في الوقت نفسه: في اليمن بشكل مباشر، وفي سورية بشكل غير مباشر.
خامساً، من الصعب قراءة هذا الاتفاق بمعزل عن الوضع في ليبيا، والتحضير لتدخل جديد فيها، في سياق قيام قوات فرنسية خاصة بعمليات عسكرية هناك. ما يعني أن للقوى الغربية المتدخلة في سورية، والتي يستعد بعضها للتدخل في ليبيا مجدداً، مصلحة في إبرام اتفاق حول وقف إطلاق النار، لاسترجاع أنفاسها هي الأخرى، والتحضير لعملية جديدة في ليبيا. فهي تعتبر عزل التنظيمات السياسية عن التنظيمات الإرهابية في سورية مسألةً حيويةً لتهدئة الأمور ولو إلى حين. وربما لاستنساخ العملية في ليبيا، قصد الحصول على إجماع حول اعتبار داعش جسداً غريباً في البلدين. فهي تعي، جيداً، أن التنظيمات الإرهابية عندما تخترق جسداً سياسياً مريضاً، تُفسد التحليل، كما تُفسد المقترحات العملية لأي تسوية سياسية. إذ من الصعب على الفواعل الإقليمية والدولية المتناحرة في سورية أن تقنع غيرها بالتدخل في ليبيا، وهي غارقة في المستنقع السوري. ومن هنا، يمكن القول إن جزءاً كبيراً من القرار الدولي للتدخل في ليبيا يُحدد في سورية الآن. وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولو في اتجاه معاكس، فدعم روسيا النظام السوري هو جزئياً انتقام من القوى الغربية التي أسقطت نظام معمر القذافي، متجاوزة الصلاحية التي منحها إياها القرار الأممي (من منظور روسي). أما اليوم فإن التدخل في ليبيا مجدداً (بدعوى مكافحة داعش هذه المرة) فمرهون بما ستؤول إليه الأمور في سورية، في الأسابيع والأشهر المقبلة.
أولاً، مخاطر اشتباكٍ بالخطأ بين المقاتلات الغربية والروسية في المجال الجوي السوري. وتعد حادثة إسقاط سلاح الجو التركي المقاتلة الروسية إنذاراً قوياً لمخاطر الاشتباك أو الصدام هذه. ثم لا يُنسى أنه، بصرف النظر عن التنديد بما سمّته الولايات المتحدة التدخل الروسي في سورية، فإن أول تحرك أميركي كان الاتفاق مع روسيا على مذكرةٍ عسكريةٍ ميدانيةٍ لتفادي أي احتكاك أو اشتباك بالخطأ بين مقاتلاتهما العسكرية في الأجواء السورية، في ظل تزايد عدد الطلعات الجوية ووتيرة القصف.
ثانياً، بعد أشهر من القصف الجوي المكثف، الغربي والروسي، بدعوى مكافحة الإرهاب، ولكن لكل طرف حساباته وأهدافه، اتضح جلياً أن استمرار المشهد الحالي يخدم التنظيمات الإرهابية، لأنه يخلط الأوراق، ويجعل القصف الجوي غير مجدٍ في أغلب الأحيان، فضلاً عن مساهمته في حركة مغادرة السوريين بلادهم قسراً، كما يعيق القصف عمل المنظمات الإنسانية وجمعيات الإغاثة الدولية. أضف إلى ذلك استعصاء الحل العسكري: لم تتمكّن الأطراف الدولية المتناحرة في سورية، عبر حلفائها، أو من خلال الضربات الجوية، من تغيير موازين القوى ميدانياً، والتي تبدو متكافئة بعض الشيء، فلا النظام قادر على سحق المعارضة، ولا الأخيرة قادرة على إسقاطه. ومشهد "لا منتصر ولا منهزم" لا يتوافق والاستراتيجيات الدولية المتنافسة في سورية. ومع تعقد المشهد العسكري السوري، واختلاط الحابل بالنابل، أصبح من الصعب، أحياناً، فهم العمليات العسكرية في البلاد وتقييمها. من ثم كانت الحاجة إلى هدنةٍ رسميةٍ، برعاية القوتين الأميركية والروسية لعزل العناصر الإرهابية عن غير الإرهابية، ومحاولة غربلة المشهد السياسي السوري، علَّ معالم التنظيمات المتعددة التوجهات والنشاطات تتضح أكثر. وبالنظر إلى كل هذه العوامل، اقتنعت القوتان بضرورة التوصل إلى اتفاقٍ يسمح لهما بتوقيف "المباراة"، ولو إلى حين محاولة ترتيب بيت، بل وبيوت حلفائهما المحليين، بمنحهم متنفّساً زمنياً لاسترجاع قواهم، ربما استعداداً لجولةٍ مقبلة، ومحاولة لاحتواء التنظيمات الإرهابية، بتحديد موقعها وتموقعها بشكلٍ أحسن، خصوصاً في حال التوصل إلى تهدئةٍ على الجبهات الأخرى.
ثالثاً، بلغت حدة الاستقطاب الإقليمي مستوياتٍ عاليةً، نتيجة التصعيد السياسي بين دول المنطقة،
رابعاً، تهاوي أسعار النفط يرهن تمويل الحرب في سورية، وتتخوّف مختلف الأطراف، لا سيما الغربية، من تقليص بعض دول الخليج تمويلها المجهود الحربي للمعارضة السورية المسلحة، خصوصاً أن هذه الدول متورّطة في حربين في الوقت نفسه: في اليمن بشكل مباشر، وفي سورية بشكل غير مباشر.
خامساً، من الصعب قراءة هذا الاتفاق بمعزل عن الوضع في ليبيا، والتحضير لتدخل جديد فيها، في سياق قيام قوات فرنسية خاصة بعمليات عسكرية هناك. ما يعني أن للقوى الغربية المتدخلة في سورية، والتي يستعد بعضها للتدخل في ليبيا مجدداً، مصلحة في إبرام اتفاق حول وقف إطلاق النار، لاسترجاع أنفاسها هي الأخرى، والتحضير لعملية جديدة في ليبيا. فهي تعتبر عزل التنظيمات السياسية عن التنظيمات الإرهابية في سورية مسألةً حيويةً لتهدئة الأمور ولو إلى حين. وربما لاستنساخ العملية في ليبيا، قصد الحصول على إجماع حول اعتبار داعش جسداً غريباً في البلدين. فهي تعي، جيداً، أن التنظيمات الإرهابية عندما تخترق جسداً سياسياً مريضاً، تُفسد التحليل، كما تُفسد المقترحات العملية لأي تسوية سياسية. إذ من الصعب على الفواعل الإقليمية والدولية المتناحرة في سورية أن تقنع غيرها بالتدخل في ليبيا، وهي غارقة في المستنقع السوري. ومن هنا، يمكن القول إن جزءاً كبيراً من القرار الدولي للتدخل في ليبيا يُحدد في سورية الآن. وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولو في اتجاه معاكس، فدعم روسيا النظام السوري هو جزئياً انتقام من القوى الغربية التي أسقطت نظام معمر القذافي، متجاوزة الصلاحية التي منحها إياها القرار الأممي (من منظور روسي). أما اليوم فإن التدخل في ليبيا مجدداً (بدعوى مكافحة داعش هذه المرة) فمرهون بما ستؤول إليه الأمور في سورية، في الأسابيع والأشهر المقبلة.