في حضرة "الشياطين"!
التُهم كثيرة وجاهزة، والقصاص قائم وليس هناك ما يردعهم أو يخيفهم من تطبيقه بصرامة وبقسوة لم يسبق أن سمع بها أو قرأ عنها أحد، وبذريعة مخالفة أعراف الشريعة الإسلامية وتجاوز حدودها.
عودة هنادي إلى مدينتها بعد غياب عنها استمرَّ لأكثر من عام كان بدافع تخليص احتجاز بيتها الذي أقامت فيه مع أسرتها لأكثر من عشرين عاماً. بيت مترامي الأطراف، كبير نسبياً يشتمل على أكثر من ست غرفة واسعة.
نمّي إلى زوجها المقيم في الخارج، من بعض أصدقائه، أنَّ البيت الذي كانوا يقيمون فيه تمت الوشاية عنه من قبل أحد عناصر "داعش" إلى ديوان العقارات، في "دولة الخلافة"، بذريعة أن البيت غير مسكون من قبل أصحابه الفعليين.
وبحسب تعليمات وقرارات "داعش" التعسّفية، فإنه سيلقي الحجز عليه، وستتم مصادرته وتسليمه إلى أي عنصر من عناصرها الفاعلين بصورةٍ مباشرة.. فضلاً عن بعض الشروط الأخرى، ومنها في حال ثبت أنَّ مالك البيت من الموالين للنظام، وإقامته في دولة أوربية، فالعقوبة ستتضاعف، والمطلوب من صاحب البيت حضوره جلسات المحاكمة شخصياً أو من ينوب عنه، خلال ثلاثة أيام، لإثبات العكس ولإعادة الاعتبار له، وإلا سيصار إلى مصادرته بصورةٍ نهائية، وسيُضَمُّ إلى أملاك الدولة الإسلامية باعتبار أن بقية الأسرة المالكة تقيم خارج المدينة، في مدينة موالية للنظام، وهذا بحد ذاته يُعد جرماً شنيعاً، ويمكن تجريم مالكوه بالكفر، ما يعني أن القتل سيكون مصير كل من يُطالب به!
اتصل زوجها يخبرها بضرورة السفر إلى الرَّقة بصورةٍ عاجلة، خلال الأربع والعشرين الساعة المقبلة، وإبراز ما بين يديها من وثائق خاصة بملكية العقار، إضافة إلى الوكالة العامّة الصادرة عن المحكمة السورية الرسمية والتي تخوّلها البيع والشراء كيفما أرادت، وإن كانت حجتها ضعيفة، باعتبار أن عَقد ملكية "الطابو" باسم زوجها الغائب - المسافر والمقيم في دولة نُصيرية، حسب أعرافهم ومعتقداتهم، وهذا ما يعني أن عودة البيت إلى أصحابه فيه الكثير من الصعوبة!
فكرت هنادي ملياً قبل سفرها إلى الرَّقة، ودخولها عاصمة ولاية "داعش" التي لا ترحم طفلاً ولا شاباً، ولا امرأة أو رجلاً كهلاً.. فقد تراءى لها الخوف واستغلال طيبتها، وإخضاعها لرغباتهم، وهي الإنسانة المسالمة التي لم يعرفُ قلبها سوى الحب. كان الخوف والرعب يرسمان ملامحهما في وجهها، رغم جرأتها المعروفة عنها، وسماعها بخبر امرأة لاقت حتفها على يد "داعش"، لمطالبتها ببيتها الذي تمّ الاستيلاء عليه وأخذه عنوةً، وكان مصيرها الموت بعد قتلها وبأعصاب باردة!
هذه الصورة شكلت لدى هنادي ردّة فعل عكسية رغم استعدادها للسفر وقطع مشوار طويل، وتحمّل عواقب زيارتها التي لا تُحمد عقباها، رغم تحذير زوجها لها بعدم السفر، في حين أنَّ بقاءها سيحرم أسرتها من باقي نصف ثمن البيت الذي سيحل لها مشاكل كثيرة، وأوّلها سداد ديونها، ومساعدة ابنتيها في تأمين تكاليف سفرهما، وما تبقى لديها سيسهم في حل الكثير في ما يتعلق بمتطلبات سفرها إلى زوجها.
في اليوم التالي ركبت هنادي أحد باصات النقل المتوجهة إلى الرَّقة، محاولةً جهدها تقديم ما بين يديها من وثائق لتخليص بيتها من حكم "داعش" الجائر وجبروته ويده التي لا ترحم توسلاً، خاصة أن كل من يخالف قراراته أو يعارضه فإنَّ مصيره السجن، وهذا أدناها، أو القتل وهو أبسطها، وهذا ما حدث للكثير من أبناء الرَّقة الأبرياء الذين لم يخلصوا من بطشهم وظلمهم والرعب الذي ترك بصمة لدى كل من التقاهم أو سمع عنهم!
سفر هنادي المفاجئ كان ضرورياً جداً، لا سيما أن بيتها تم بيعه إلى أحد من في الجوار بعقد رسمي وقبض نصف ثمنه، وبحضور شاهدي عدل قبل شهرين من محاولة احتجازه في قبضة "داعش"، وبقي نصف المبلغ المتفق عليه على أن يدفع بعد تخليصه منهم، إلا أنَّ المشكلة تدخل عناصر "داعش"، ومعرفتهم بحقيقة زوجها المسافر، وإقامتها في بلاد الكفر، ما يعني أنَّ هناك صعوبة بالغة في فكّ احتباس البيت، وحرمانها وأسرتها من استكمال إجراءات البيع، ما يعني عرقلة رغبتها في السفر مع أولادها إلى خارج سورية واللحاق بزوجها الذي سبقها إلى إحدى الدول الأوروبية، وقبض ما بقي من مبلغ ما زال بذمة مالكة البيت الجديدة.
وبعد سفر استمر ساعات طويلة، وصلت إلى الرَّقة قادمة من اللاذقية، التي تقيم فيها مع أسرتها، وابنتيها اللتين تدرسان في الجامعة، والتي قررت أن تدفع بهما إلى السفر بشتى الطرق والتخلي عن دراستهما واللحاق بوالدهما مهما كلف ذلك من مبالغ مالية، والسبب هو غياب الأمن، وتردي الواقع المعيشي والغلاء المستشري الذي أفلس جيوب الجميع!
ومع ساعات المساء وصلت إلى الرَّقة، واتجهت إلى بيتها، وبعد ذلك زارت جيرانها وعلمت منهم بفحوى المشكلة الخاصة بورقة الإحضار الملصقة على باب المنزل، والتي تتضمن حضور صاحب البيت خلال ثلاثة أيام وإلا تم اختراق البيت ودخوله عنوة وأخذ ما بداخله وتسليمه إلى أحد عناصر "داعش" ليصار إلى استخدامه من قبله.
في اليوم الثاني من وصول هنادي من اللاذقية ذهبت إلى مقر المحكمة الخاصة "بداعش" وأبرزت الوثائق الخاصة بملكية البيت، وبعد جدال طويل ونزاع استمر أياماً، تمكنت وبشهادات الشهود، من إثبات ملكيتها للبيت والأسباب التي دعتها إلى ترك الرَّقة والإقامة في مدينة ثانية، وتم تأجيل البت باستصدار قرار المحكمة إلى ما بعد التأكد من الأدلة وتوثيقها من قبل المحكمة، بالإضافة إلى ورقة إثبات الملكية الصادرة من ديوان العقارات في دولة "داعش".. والتي تجيز لها حق البيع والشراء، فقامت بدورها باستكمال إجراءات عقد بيع البيت الذي اشترته جارتها أم إبراهيم ودفعت لها بقية المبلغ المتفق عليه.. وبعد أن تمكنت هنادي بخبرتها وحنكتها وجرأتها المعهودة من أن تقف موقفاً حاسماً وحازماً في وجه قاضي محكمة "داعش"، التي أرهبت الرجال، تمكنت أخيراً من تخليص بيتها من جورهم ورهانهم البائس، واستلام المبلغ الذي سيساعدها في دفع ما يترتب عليها من ديون متراكبة، فضلاً عن أنها ألحّت على ابنتيها لترك الدراسة والسفر بعيداً عبر البحر، لطلب اللجوء في بلاد النعيم بسبب سوء الأوضاع الأمنية والخوف من المجهول!
وخلال إقامتها في الرَّقة، التي دامت لأكثر من اثنين وعشرين يوماً، قضتها في بيتها السَليب تارةً، والإقامة لدى جيرانها، وعند بيت أختها تارةً أخرى، على الرغم من أن أهل زوجها كانوا مقيمين بالقرب من بيتها الذي تخلّصت منه ببيعه بثمن بخس، إلّا أنهم لم يهتموا بها، ولم يأخذوا بيدها، وبدلاً من أن يقوموا بمساعدتها كانوا أشدّ الناس خصومة لها!
وقرّرت هنادي، بعد أن حلّت مشكلة بيتها المحتجز من قبل "داعش"، واستلام ما بقي من ثمنه الذي تم إرساله عبر أحد الأشخاص، إلى ابنها في اللاذقية واطمأنت على وصوله، قرّرت السفر نهائياً بعيداً عن الرّقة والعودة إلى حيث تعيش أسرتها.
عدم اللحاق بأسرتها بعد غياب حوالي شهر آلمها جداً، لا سيما أن ابنها البكر، ابن السادسة عشرة وأخوته الصغار تحمّلوا عبء التركة الثقيلة بغياب والدتهم القسري، ما اضطر أختهم الصغيرة، ابنة الثالثة عشرة عاماً، إلى تدبير أمور المنزل، وسدّ فجوة غيابها.
محاولات هنادي في السفر إلى خارج الرَّقة، عاصمة ولاية الدولة الإسلامية، "داعش"، كانت محفوفاً بالمخاطر، والفأل السيئ في حال القبض عليها بدون حصولها على إذن مسبق يسمح لها بمغادرة الولاية، وبشروط مسبقة محددة كان قد فرضها التنظيم الإرهابي على كل من يغادر خارج حدودها، ما دفعها إلى أن تسلك طرقاً أكثر صعوبةً للوصول إلى بيتها وأبنائها الذين ألحّوا عليها بالمجيء مراراً، وبعد محاولات، تمكنت من أن تصل إلى أول نقطة أمان، بعد أن تجاوزت حدود الرَّقة، بعد جهد وعناء كبيرين!
في مدينة "عفرين" التي تتبع محافظة حلب، وتبعد عنها مسافة 63 كيلومتراً، والواقعة في المنطقة الجبلية شمال غرب سورية، كانت نقطة التحوّل الكبير، إذ وصلتها متأخرة مع أمتعتها المبللة بالمياه الآسنة، التي تمكنت من أن تودعها لدى أحد محال السفريات، في جو ممطر وموحل إلى درجة أنها لم تعد تستطيع أن تتحمّل مشوار السفر الطويل المجهد، وصارت تبحث عن مأوى حتى يحين موعد سفر الباص الذي سينقلها في اليوم التالي إلى مدينة حمص، وفي طريقها داخل المدينة ظلت تمشي على رجليها، متنقلة هنا وهناك حتى عثرت على حانوت صغير، وطلب منها صاحبه، وهو شاب في ريعان الشباب، بعد أن استجارت به وشرحت له معاناتها، أن تزور أهله وأن تقضي الليل عندهم، لأنها لا تعرف أحداً في المدينة، وقال لها بأن أهله معروف عنهم بالترحيب بالضيف وإيوائه، وكما يؤكد فإن ذلك ليس بجديد عليهم، وأنه في بيتهم الكبير الواسع هناك غرفتان إضافيتان لإيواء الضيوف الغرباء، المطاريد، الذين تضيق بهم الدنيا، وطالما رحب أهله بضيوفهم وقاموا على خدمتهم، وهذه ليست وليدة اللحظة وإنما عادة سبق أن دَرجوا عليها أباً عن جَد، وما زالوا مستمرين عليها ويفاخرون بها.
دقّت هنادي باستحياء باب "الحوش" الكبير، وصاح بها أبو عمر، صاحب البيت بخجل، وقالت له أنا امرأة غريبة، وأرجو منكم إيوائي في بيتكم العامر إلى صباح اليوم التالي حتى أتمكن من إكمال وجهة سفري. أنا قادمة من مدينة الرَّقة، وبحاجة إلى مساعدتكم، ولا أعرف أحدا في هذا المكان.
رحّب بها صاحب البيت، الرجل الستيني وزوجته وأسرته الكبيرة، بكل حب، وقدما لها المساعدة المطلوبة والراحة التامّة، وقاما بتقديم ما توافر من طعام، وشكرتهم على كرمهم الزائد وحسن ضيافتهم..
ومع ساعات الصباح الأولى عادت أدراجها إلى أحد محال كراج انطلاق "البولمان" لأخذ أمتعتها المركونة التي أودعتها لديه، وأكملت مشوارها إلى مدينة حمص بعد أن تجاوزت عشرات الحواجز الأمنية التي ما وجدت إلا لإذلال الناس وابتزازهم، ومنها اتجهت إلى مدينة اللاذقية للقاء بأفراد أسرتها، وهناك وصلت إلى آخر نقطة سفر حطّت بها رحالها، ومنها إلى بيتها الذي وصلته في ساعة متأخرة من الليل، بعد معاناة استمرت خمسة أيام مواصلة الليل بالنهار.
سورية اليوم تتناهبها يد الإجرام، ويشملها الدمار والخراب والنهب وانتشار العصابات المسلحة، مع غياب الأمن، وانخفاض حاد للدولار، ولا ننسى آهات الحزن والأسى الذي آلم الناس وأوجعهم. لم تعد في مأمن أينما توجهت إلى أي مكان من مدنها وقراها، بل إنها أصبحت مجرد مغامرة، ومقامرة خاسرة في نفس الوقت أينما حَللت.