في حماية "الاستثنائية الأردنية"
لم يكن تجنّب الأردن سيناريو ما حدث في دول عربية عديدة خلال حقبة الربيع العربي محض مصادفة، بل لأنّ هنالك ما كان الإعلام الغربي يسميها "الاستثنائية الأردنية" التي تقوم على طريقة مختلفة عن باقي الدول العربية في إدارة الأزمات، من خلال المرونة في الاستجابة للشارع، وتجنّب السياسات العنيفة ذات الطابع الأمني الخشن.
صحيح أنّ الأردن ليس دولة ديمقراطية بالمعنى المعروف؛ تداول سلطة، وتعدّدية سياسية، وحكومات برلمانية منتخبة، وحريات سياسية وحقوق إنسان، لكنّه، في الوقت نفسه، لم يكن في أيّ وقت سلطوية دموية، يمكن أن ينطبق عليه وصف "شبه سلطوية" أو "شبه ديمقراطية".
حتى في ذروة الانقلاب على الربيع العربي 2013، مع تعثر التجارب المصرية والسورية والليبية واليمنية، وانتقال حلفاء الأردن من معسكر "الاعتدال العربي" إلى سياسات "أخونة الإرهاب" وتجريم الإخوان المسلمين ومحاربتهم، وهي بداية ما يمكن أن يطلق عليها "السلطوية العربية الجديدة" (ذات سمات مغايرة بدرجات للسلطوية التقليدية) تجنّب الأردن هذا المسار، وحافظ على خطّ أقل اندفاعاً، على الرغم من وصول الأزمة بين الحكم والإخوان المسلمين إلى مرحلة حساسة ومتقدّمة، وعلى الرغم أيضا من اتخاذ خطوات غير مسبوقة في إعادة هيكلة الأوضاع القانونية للجماعة وتحجيم دورها سياسياً.
ثمّة قلق في الأردن اليوم على صعيد النخب السياسية والمثقفين من أنّ هذا النموذج الاستثنائي أمام اختبار حقيقي مع الأزمة المتدحرجة بين الحكم والمعلمين، والتي أدّت إلى حل مجلس النقابة وزجّ عشرات المعلمين في السجون، ووضع لجنة حكومية لإدارة شؤون النقابة مع تجميدها عامين، وحظر النشر إعلامياً، ومحاولة إلصاق النقابة بجماعة الإخوان المسلمين لتسهيل ضربها سياسياً. مدار القلق أنّ مثل هذه الوصفة هي ذاتها التي تجنّبها الأردن خلال العقد الماضي، ونجح، على الرغم من كل الظروف الاقتصادية والمالية والسياسية المتوترة في عبور محطّات خطيرة أطاحت أنظمةً عربية، بل والاستقرار السياسي والوحدة الجغرافية لدول أخرى، فلماذا العودة إلى سيناريو لا يتسق مع الحالة السياسية الأردنية التاريخية، ولا طبيعة المجتمع الأردني ولا حتى أسلوب نظام الحكم في إدارة الأزمات، مما يسوّغ علامات استفهام حقيقية لدى الغالبية العظمى تتمثّل في: هل نريد هدم مداميك هذا النموذج المتميز تحت وطأة أزمة يمكن تجاوزها بحنكة وحكمة ومزيد من الحوار، كما حدث في الأزمة الماضية، قبل عام واحد فقط؟!
تجنّب الأردن الحل الأمني الخشن، وحافظ على خطّ أقل اندفاعاً، على الرغم من وصول الأزمة بين الحكم والإخوان المسلمين إلى مرحلة حساسة
لا نناقش هنا موضوع مطالب المعلمين والخلاف بينهم وبين الحكومة في تفعيل الاتفاقية المبرمة بين الطرفين، والجدل الوطني حول "توقيت" علاوة المعلمين (بعد أزمة كورونا، وقد تمّ إيقاف المكافآت عن القطاع العام بأسره)، فالقصة هنا "إدارة الأزمة" ذاتها، في ما إذا كانت ستخضع لمنطق "تكسير العظام" أو منطق التفاهمات والحوار والمفاوضات؟ النتيجة الواضحة للطريقة الحالية لإدارة الأزمة ستؤدي إلى إحدى نتيجتين: الأولى، إخماد آني لاحتجاجات المعلمين، والنجاح في إلغاء النقابة، ولكن ما النتيجة؟ مراكمة الأزمات وتضخّم حجم الشعور بالإحباط والغضب لدى شرائح اجتماعية عريضة، من عشرات آلاف من المعلمين، وعشرات آلاف من الشباب العاطل عن العمل، والحراكيين والإخوان المسلمين، بالتزاوج مع تنامي الشعور بالتهميش لدى محافظات عديدة، وتجذّر الفجوة الطبقية. إنّها باختصار وصفة لسيناريو خطير قادم. والنتيجة الأخرى هي تدحرج الأزمة وتطوّرها، وإطاحة الحكومة الحالية على وقعها، وحلّ مجلس النواب، ولكن مع بقاء الجميع واقفاً على أطراف أصابعه، مترقباً تطور الأمور وتحميل الحكومة القادمة أعباء كبيرة قبل أن تبدأ، وإجراء الانتخابات النيابية في ظل حالة سياسية احتجاجية كبيرة.
ثمة شعور بالمرارة في أوساط رسمية من نتيجة الأزمة السابقة، ومن الاتفاقية التي توصلت إليها الحكومة مع المعلمين، وخشية رسمية واضحة من أن يصبح ذلك عنواناً لتنمّر أو تمرّد فئات أخرى من القطاع العام على الدولة، وبالتالي الوقوع في فخّ خطير من الأزمات التي تحمّل الموازنة العامة ما لا تحتمل.
على الجهة الأخرى، عزّزت الوصفة الحالية الأزمة ولم تحلّها، وركّبتها مع أزماتٍ أخرى، وكأنّها أوجدت قاعدة اجتماعية كبيرة وصلبة لحراك احتجاجي جديد. إذاً، من الضروري إعادة قراءة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بأفقٍ مختلف، والإقرار بأنّ هنالك تغييرات كثيرة تستدعي استجابةً سياسيةً تتطلب اتجاهاً معاكساً لما يحدث حالياً، أي انفتاحاً سياسياً وتجديداً في قدرة اللعبة السياسية على امتصاص الأزمات، واستيعاباً للنخب الجديدة في المجتمع، وإدماجها في الدولة وليس العكس.
على أبواب مئوية الدولة الأردنية الأولى، يتطلع الأردنيون، بالضرورة، إلى ولوج العام المقبل بدولة قوية ومتماسكة، لكن القوة الحقيقية هي في صلابة العلاقة بين الحكم والمجتمع، وتجديد المشروع الوطني السياسي للدولة ورسالتها السياسية، وخطواتٍ نحو تمكين جيل الشباب سياسياً، ليكونوا في مواقع القيادة، وتطوير الرواية الإعلامية وتجويدها، فمثل هذه الخطوات هي التي يمكن أن تشكّل قفزة نوعية إلى الأمام، وهي صوت العقل، لا الغرائز، في إدارة الأزمات.