19 أكتوبر 2019
في مسألة الحمائية الاقتصادية
العولمة، عكس ما يقال، ليست مفروضة على الدول، بل هذه من سمح بوجودها، بإيجاد الظروف المواتية لتطورها، فالدول هي من رفع الحواجز الجمركية وحرّر التجارة الدولية، لاقتناعها بأن تحرير التجارة يعود عليها بالفائدة اقتصادياً. بالطبع، لا تستفيد كل الدول بالدرجة نفسها من العولمة، فالدول ذات الاقتصاديات الأقوى هي الأكثر استفادةً من تحرير التجارة. لذا، هي الأكثر دفاعاً عن تحرير التجارة العالمية والعولمة، والاقتصاديات الأقوى. ولهذا السبب، نجد أكبر مناطق التبادل الحر تضم أقوى الاقتصاديات العالمية. وسبق لمنظمة التجارة العالمية أن اعتبرت التمركز الإقليمي للتجارة العالمية خطراً على العولمة، نظراً لسيطرة منطقتين أو ثلاث على معظم المبادلات العالمية.
وكما سمحت الدول للعولمة بالتطور، فإنه في وسع الدول أيضاً تقويضها. وهذا ما قد يحدث مع تعالي الأصوات المنادية بالحمائية الاقتصادية، لاسيما في الولايات المتحدة وروسيا، وفي أوساط اليمين المتطرّف في دول الاتحاد الأوروبي. فقد بنى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حملته الانتخابية، فيما بناها، على الحمائية الاقتصادية لحماية الاقتصاد الأميركي من المنافسة الصينية (البضائع المصنعة) ومن أميركا اللاتينية، لاسيما المكسيك، من اليد العاملة الوافدة.
وبمجرد انتخابه، هدّد ترامب، مؤكداً وعوده الانتخابية، الشركات الأميركية التي قامت و/أو تفكر في تهجير وحداتها الإنتاجية إلى المكسيك، بفرض عقوبات عليها، إن هي لم تعد توطينها في الولايات المتحدة. كما طالب الشركات الأجنبية بضرورة صناعة منتجاتها الموجهة إلى السوق الأميركية في الولايات المتحدة. وتم رفع رسوم مواد أولية مستوردة لتشجيع بل ولفرض استخدام المواد الأولية المحلية. ويطلب ترامب من كل الشركات توظيف الأميركيين والاستغناء عن المهاجرين، قائلاً هو الآخر بمبدأ الأولوية الوطنية التي تقول بها الجبهة الوطنية الفرنسية منذ سنوات. وتنتهج روسيا سياسة حمائية، تفرض مثلاً بموجبها على شركات صناعة السيارات تزويد الأخيرة بمحركات مصنوعة في روسيا.
والمفارقة أن الصين هي من يدافع اليوم عن تحرير التجارة الدولية، وعن العولمة، مندّدة
المثير للانتباه التصور الخاطئ الذي بنت إدارة ترامب على أساسه موقفها الحمائي، فهي تقول إن الحمائية الاقتصادية ضرورية لحماية الاقتصاد الأميركي ومناصب شغل الأميركيين، إلا أن الرياح الاقتصادية تجري بما لا تشتهي سفن ترامب وإدارته، فالاقتصاد الأميركي قوي ومفتوح على العالم، وتأتي قوته أيضاً من انفتاحه هذا، ومن كونه يقوم على حرية التجارة، ويستفيد منها أكثر من غيره. وبالتالي، سيتضرّر هو الآخر من الحمائية التي ستؤثر على نموه مع مرور الوقت، خصوصا أن المنتجات الأميركية المصدّرة نحو الدول الأخرى ستعاني، هي الأخرى، من الحمائية الاقتصادية التي ستمارسها هذه الدول، على أساس مبدأ التعامل بالمثل. وبالتالي، ستشهد كل القطاعات الاقتصادية الأميركية الموجهة نحو التصدير ركوداً، ثم أزمة قد تسبب في انهيارها نهائياً، ذلك أن المراهنة على الاستهلاك المحلي خاسرة، لأن السوق المحلية الأميركية ستبلغ، في وقت ما، درجة الإشباع.
ليست الحمائية حلاً لتصحيح الخلل في الميزان التجاري الأميركي مع الصين، وللحد من الهجرة والعمالة الوافدة التي تحتاج إليها، في واقع الحال، الشركات الأميركية. من هنا، تبدو الحمائية الاقتصادية حلاً جاهزاً شعوبياً للتعاطي مع مشكلة بنيوية، ومع تحولات اقتصادية عالمية، تعجز إدارة ترامب عن استيعابها كما هي. فحث مواطني أي بلد على استهلاك المنتوج المحلي شيء، وفرض رسوم جمركية على منتجات أجنبية للحد أو للقضاء على قدرتها التنافسية شيء آخر. هذا النموذج الاقتصادي الذي تعرضه إدارة ترامب على العالم سيقوّض نمو الاقتصاد العالمي، ويدخل العالم، وتحديداً الاقتصاديات الكبرى، في حرب حمائية تجارية، تكون انعكاساتها وخيمةً على الاقتصاد العالمي، وربما أيضاً على السلم العالمي.
المفارقة الأخرى في زمن الحمائية الاقتصادية الموعودة (والواعدة حسب ترامب) هي النهج
الاقتصاديات الوطنية، قوية أو ضعيفة، بحاجة لتصحيح اختلالاتها، حتى تتكيّف مع التطورات المتسارعة، وإلى تصور متقدم لنماذج اقتصادية جديدة، تأخذ في الاعتبار ندرة المواد الأولية وحماية البيئة والمصلحة المشتركة، فالحمائية ليست حلاً على الرغم من طابعها "القومي" الذي يجعل كثيرين يرون فيها إجراءً لحماية الوطن، لكنها إجراءٌ يحمل، في طياته، بذور فشله، لأنه يعرِّض، في نهاية المطاف، مصلحة أي بلد للخطر، خصوصا أن دعاة الحمائية يتخذونها عذراً لتبرئة الذات، ووسيلة لتحميل الآخر (الصين بالنسبة لإدارة ترامب) تبعات السلوك الاقتصادي الأميركي وتحولات القوة الاقتصادية العالمية.