في مواجهة النظرة المحافظة للتراث
تحولت النظرة المحافظة للتراث، في العقود الأخيرة، إلى ظاهرة مخيفة، حيث أصبحنا نعاين في ثقافتنا عمليات اكتساح تراثية شاملة، أعادتنا إلى لغة عتيقة في الثقافة والسياسة والمجتمع، لغة كنا نعتقد أن الزمن عفا عنها، فإذا بها تعود مجدداً لترسم للمنتوج الرمزي لذاتنا التاريخية، صوراً لا علاقة لها بما جرى ويجري في التاريخ من تحولات.
أصبح المخزون التراثي يُوَظَّف بشكل مرعب في معارك حاضرنا، داخل مجتمعاتنا وخارجها، حيث انتعشت، في السنوات الأخيرة، محاولات في استخدامه في معاركنا السياسية، وداخل أغلب الساحات العربية، على الرغم من مظاهر الهدنة الحاصلة هنا وهناك. ونحن نعتقد أن العمل، اليوم، في هذه الجبهة بالذات، يتطلب من بين ما يتطلبه إنجاز قراءات جديدة لتراثنا، ولذاتنا التاريخية المتحولة بفعل متغيرات الزمان.
استفحل الأمر، وأصبح بمثابة سيل جارف تمثله كتيبات وفتاوى وقنوات تلفزية ووسائط اجتماعية لا حصر لها. ولعل السبب يعود إلى أننا تركنا المكون التراثي جانباً، فاحتكرته جبهة القراءة المحافظة. وبناء عليه، نتطلع إلى ضرورة إطلاق مشاريع في النظر والبحث، قادرة على إنجاز فهمٍ، يستجيب لأسئلة عصرنا ومقتضيات تجاوبنا الإيجابي مع ما يجري في العالم من حولنا.
التراث الإسلامي مثله، في ذلك، مثل مختلف منتوجات البشر في التاريخ، حَمَّال أوجه لا حصر لها. وهو خزّان قابل لأكثر من صيغة من صيغ الاستثمار الخلّاق والمبدع في الحاضر والمستقبل. أما أن يواصل فَهمٌ نصي مغلق للظواهر التراثية حضوره وهيمنته على العقول والضمائر في مجتمعنا، ففي ذلك ما يبرز جوانب من الصور التي نصنعها لأنفسنا بأنفسنا، ويرسمها الآخرون لنا في زمن لاحق، استناداً إلى منتوج الفكر المنتشر بيننا.
ينبغي أن يكون الذات منطلق المواجهة في المعركة التي نحن بصددها هو الذات، إصلاح ذواتنا التاريخية، تصحيح صورة الذات عن ذاتها، بالعمل من أجل مزيد من التصالح مع قيم العالم الذي ننتمي إليه، لنتمكن من المشاركة في إبداع التاريخ المعاصر، بالاشتراك مع كل من تعنيهم صناعة هذا التاريخ.
لا يعني هذا أبداً، أن الآخر بريء مما نحن فيه وعليه، فالمعلوم أن تاريخنا المعاصر لا يمكن أن يُفهم بصورة صحيحة، من دون أخذ العوامل الخارجية بالاعتبار. لكننا نعتقد أنه، بعد معارك الاستقلال عن الآخرين الذين استعمرونا، وما فتئوا يتربصون بوجودنا التاريخي وبجغرافيتنا ومواردنا، فإن معارك نهوضنا واستكمالنا عمليات التحرير ترتبط أشد الارتباط بذاتنا، وذلك بالعمل على حل الإشكالات العديدة الناشئة في محيطنا التاريخي، نقصد إشكالات التحديث والاجتهاد والإبداع وبناء التوافقات السياسية الإرادية، والتي نفترض أنها تسهل عمليات إصلاح مجتمعاتنا وتطويرها في اتجاه إعادة بناء المواطن العربي والدولة العربية، والمستقبل العربي المنشود.
أما موضوع دور العامل أو العوامل الخارجية، فنفترض أن فهماً تاريخياً لدور الآخرين في تشويه صُورنا ونوعية حضورنا التاريخي بالأمس واليوم، يقتضي عدم نسيان، أو تناسي، منطق الصراع في التاريخ. أقصد بذلك أنه يجب أن نتخلص، في هذا الموضوع بالذات، من أوهام اللغة الأخلاقية، والمثالية منها خصوصاً، ونتخلص أيضاً من لغات تمجيد الذات، والاعتزاز بتاريخ تُنَافِسُنَا في بنائه تصوراتٍ، لا نتفق معها تماماً، تصورات تؤطّره وتحوّله إلى نماذج فكرية متخيلة، لا علاقة لها بالتاريخ الحي كما تشكل، وما فتئ يتشكل في دائرة الزمان.
فهل نعرف أنفسنا؟ وهل نعرف ما نريد؟ وهل حصل التوافق بيننا على تصورات مُحَدَّدَة مُنَاسبة لتاريخنا وحاضرنا؟ وهل يمكن أن نتحدث مع الآخرين لغة التاريخ والمصلحة والصراع، إذا ما اقتضى الأمر ذلك؟ عندما نجيب على مثل هذه الأسئلة، ونصفِّي حساباتنا مع مواطن الخلل في ذواتنا، أولاً، نستطيع أن نبني التصورات والمواقف التي تكفل لاختياراتنا التاريخية في النهضة والتقدم ما يسمح لها بالتحقق في الواقع، ونكون قد بدأنا نعمل على زحزحة الصور النمطية لماضينا وتراثنا، وهي الصور التي تسجن ذواتنا في قوالب لا تعبر، تماماً، عن مختلف مظاهر تحولنا الذاتي في التاريخ.
لا ينبغي أن نغفل، هنا، التأكيد على أننا لا نتصور سهولة المعركة التي تنتظرنا، فالإصلاح ليس وصفة سحرية منقذة من شرور عالم نحن صانعوه. الطريق مفتوح أمامنا على مشروع بذل جهود وتضحيات ومنازلات كبرى في مجالات عديدة، بهدف تعويد الذات على مواجهة أسئلة التاريخ والحرب والإصلاح، تعويد الذات على المواجهة بالتضحيات التي تنذر الغالي والنفيس للانتصار على أعباء التاريخ، وما سيصنع لحظة حصول الإصلاح الذي نتطلع إليه سيعد محصلة لتراكم تاريخي، قد لا نكون على بيّنةٍ تامة من مختلف أبعاده وأفعاله.