وأكد قايد صالح في خطاب ألقاه أمام القيادات العسكرية في منطقة تندوف جنوبي الجزائر أن استعمال سلطة الشعب حق يراد به دفع البلد إلى نفق الفراغ الدستوري. وقال "هل يدرك من يدعي عن جهل أو عن مكابرة وعناد أو عن نوايا مبهمة الأهداف، نعم نوايا مبهمة الأهداف، أن سلطة الشعب هي فوق الدستور وفوق الجميع، وهي حق أريد به باطل، كونهم يريدون عن قصد تجاوز، بل تجميد العمل بأحكام الدستور". وتابع متسائلا: "هل يدرك هؤلاء أن ذلك يعني إلغاء كافة مؤسسات الدولة والدخول في نفق مظلم اسمه الفراغ الدستوري، ويعني بالتالي تهديم أسس الدولة الوطنية الجزائرية والتفكير في بناء دولة بمقاييس أخرى وبأفكار أخرى وبمشاريع أيديولوجية أخرى، تخصص لها نقاشات لا أول لها ولا آخر، هل هذا هو المقصود"؟
وكان المسؤول العسكري الجزائري يشير بوضوح إلى كتلة من السياسيين والناشطين الذين يطالبون ببدء مرحلة انتقالية يقودها رئيس أو مجلس رئاسي انتقالي والذهاب إلى انتخاب مجلس تأسيسي يعيد صياغة دستور جديد للبلاد. وتهاجم هذه الكتلة الجيش وتعتبر أنه يعرقل تنفيذ هذه المخرجات السياسية، بينها "جبهة القوى الاشتراكية" و"التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" و"حزب العمال" وناشطون مستقلون ككريم طابو ومصطفى بوشاشي.
وبلهجة حادة تعهد قائد الجيش بمنع المغامرة بالبلاد، مشددا على أن "الجزائر ليست لعبة حظ بين أيدي من هب ودب وليست لقمة سائغة لهواة المغامرات"، مشيرا إلى أن البلد "يحتاج منهم جميعا التحلي بالكثير من الحكمة والتبصر والعقلانية، والكثير من الاتزان الفكري والعقلي وبعد النظر، فالدستور الجزائري هو حضن الشعب وحصنه المنيع وهو الجامع لمقومات شخصيته الوطنية وثوابته الراسخة التي لا تحتاج إلى أي شكل من أشكال المراجعة والتبديل".
ويبدو الجيش الجزائري بصدد استغلال انقسام واضح داخل الكتلة الشعبية في الحراك وفي الجسم السياسي والمدني، حيث بدأت كتلة من الفاعلين المدنيين والسياسيين تميل إلى طروحات الجيش باستبعاد مقترح المرحلة والرئاسة الانتقالية.
وعبر قايد صالح عن أمله في أن يبتعد الشعب الجزائري مسافة عن كتلة سياسيين تبادر إلى مهاجمة الجيش، وأن يحسن "التمييز الصحيح بين من يمتلىء قلبه صدقا، ومن يحمل في صدره ضغـينة لهذا البلد، وسيدرك بالتأكيد أن من يفيض صدره حقدا على الجيش وعلى قيادته الوطنية، هو لا محالة في خانة أعداء الجزائر".
وادعى أن "أعداء الجزائر يدركون تماما، بحسرة شديدة وبحسد أشد، أن بلادنا تحوز اليوم، على جيش وطني المبدأ، وشعبي المنبع وصادق العمل والسلوك، على رأسه قيادة مجاهدة تشق طريقها نحو تأمين الجزائر ومرافقة شعبها إلى غاية الاطمئنان التام على حاضر هذا الوطن وعلى مستقبله".
ويتعرض الجيش وقائده إلى انتقادات حادة وترفع ضده شعارات في المظاهرات الشعبية الأسبوعية يوم الجمعة والطلابية يوم الثلاثاء، ويتهم بمحاولة منع تنفيذ حل سياسي والتمسك برئيس الدولة الحالي بالفترة الانتقالية، عبد القادر بن صالح، وبحكومة نور الدين بدوي برغم الرفض الشعبي لها.
ودافع قايد صالح عن مواقف الجيش من الأزمة السياسية، وقال إن "قيادة الجيش لم تدخر أي جهد من أجل توفير كافة الظروف الملائمة التي تعبد الطريق أمام تذليل كافة الصعوبات التي أفرزتها الأزمة التي تعيشها البلاد". كذلك أشار إلى أن "ما تحقق من مكاسب حتى الآن، هو إنجازات عظيمة تصب جميعها في مصلحة الجزائر وشعبها وتتوافق تماما مع المطالب الشعبية الموضوعية"، لافتا إلى أنه "وعلى الرغم من الأزمة التي تمر بها البلاد اليوم، فإن الدولة الجزائرية بمؤسساتها المختلفة بقيت محافظة على كافة قدراتها التسييرية وعلى هيبتها وعلى نشاطاتها المختلفة وبقيت محافظة على تواصل مسار العلاقات مع شركائها الأجانب، وعلى إبقاء الدولة الجزائرية ضمن سياقها الشرعي والدستوري".
وحاول قائد الجيش الرد بطريقة غير مباشرة على أصوات سياسية تطرح باستمرار سؤالا حول صمت قيادة الجيش طوال العقدين الماضيين، عن عمليات الفساد ونهب المال العام. وبرر المسؤول العسكري ذلك بانصراف الجيش وانشغاله بتطوير قدراته القتالية ومحاربة الإرهاب. وقال إنه "في الوقت الذي كان فيه أفراد الجيش منشغلين بأداء واجبهم الوطني حيال تطوير القوات المسلحة وترقيتها، ومواصلة القضاء النهائي على آفة الإرهاب في شمال الوطن، كان فيه البعض ممن لا ضمير لهم يخططون بمكر في كيفية الانغماس في مستنقع نهب المال العام أي مال الشعب الجزائري"، مشيرا إلى أن هؤلاء "نسوا بأن هذا الطريق قصير بل ومسدود".
ومن شأن تجديد الجيش لمواقفه إزاء حل الأزمة، من دون أي تطور، أن يدفع قوى المعارضة إلى مراجعة مواقفها ومبادراتها ومقترحاتها لحل الأزمة السياسية، والحسم إما باتجاه تطوير الموقف وتفهم مخاوف الجيش من المرحلة الانتقالية الغامضة، وإما الصدام مع الجيش واستعراض القوة في الشارع، ما سيزيد من تعميق الأزمة وإطالة أمدها.
رد القوى الجزائرية
إلى ذلك، بدأت ردود القوى والأحزاب السياسية إزاء الخطابين الأخيرين لقائد الجيش تتوالى، إذ جددت أحزاب ومنظمات التمسك بخطة سياسية لحل الأزمة الراهنة في الجزائر، ترتكز على مرحلة انتقالية تقودها شخصية وطنية وعقد مؤتمر حوار وطني واقالة الحكومة الحالية.
وأعلنت منظمة "المجاهدين" (قدماء محاربي ثورة التحرير)، وتضم القيادات التاريخية لثورة الجزائر، تمسكها بضرورة بدء "فترة الانتقالية وتطبيق المادتين السابعة والثامنة، كما طالب بذلك بالحاح الحراك الشعبي". وأكد بيان للمنظمة أن هناك إجماع لدى "المجموعة الوطنية لتقاسم القناعة بوجوب البحث المشترك عن حل بديل يزاوج بين تطبيق احكام الدستور ومقتضيات الواقع السياسي وباشراك كل الأطراف الفاعلة في اقتراح اليات عملية وشفافة وواقعية تضمن الانتقال من وضع استثنائي الى وضع طبيعي يفتح الافاق امام البلاد لمباشرة اصلاحات عميقة ".
ويأتي موقف المنظمة، التي تمثل أكبر مرجعية ثورية وتاريخية في الجزائر، بخلاف موقف الجيش، ومتصادماً مع طروحاته التي ترفع فيتو ضد دعوات إقرار مرحلة انتقالية، أو تعيين شخصية أو رئيس انتقالي لفترة محددة.
واقترحت المنظمة عقد مؤتمر "حوار وطني أو الندوة الوطنية تقود لتزكية شخصية وطنية تتمتع بالمصداقية وتحظى بإجماع وطني تباشر مسؤولية الاشراف على إدارة مرحلة ما بعد إنتهاء الفترة المرتبطة بتطبيق المادة 102 من الدستور"، في التاسع من يوليو المقبل، على أن "تتولى هذه الشخصية تشكيل لجنة وطنية مستقلة تشرف بصورة عملية على تحضير وتنظيم ومراقبة وإعلان نتائج الاستحقاق الرئاسي، كما تباشر مراجعة قانون الانتخابات".
واقترحت المبادرة أن "تتحمل هذه الشخصية الوطنية مسؤوليتها في إقالة الحكومة الحالية وتشكيل حكومة بديلة ذات طابع تكنوقراطي، ويراعى في اختيار أعضائها التمتع بالكفاءة والنزاهة والسمعة الحسنة في الأوساط الشعبية، ويقتصر دورها في السهر على توفير الامكانيات والوسائل المادية والتقنية المرتبطة بإجراء العملية الانتخابية".
وفي السياق، انتقد رئيس حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، محسن بلعباس، خطاب قائد الجيش ودفاعه عن الدستور.
ونشر بلعباس تقدير موقف على صفحته على موقع "فيسبوك"، اعتبر فيه أن "قائد الأركان أعاد الكرّة من جديد. بدا أشد إلحاحاً على فرض آرائه التي بناها على مغالطات، موهماً بفضائل احترام القانون الأساسي. نسي أو تناسى أن آخر تعديلين عميقين للدستور (2008 و2016)، واللذين أخلّا بتوازن السلطات لم يزكِهما الشعب، وإنمّا صوّت عليهما برلمان منبثق من أسوء وأفظع عمليات تزوير انتخابي عرفتها الجزائر منذ استقلالها. والهدف من هذه الخدعة الرجوع إلى إجراء كان منذ 1962 سبب المشاكل والأزمات الدورية"، مضيفاً أن "تاريخ البشرية علمنا أن بقاء الدول واستمرارها مبنيان أولاً، وقبل كل شيء، على نصوص تأسيسية ينتخب عليها المواطنون بحرية وليس على أشخاص، لاسيما إذا كانوا قد اعتلوا مناصب المسئولية عن طريق اغتصاب القوانين والعنف وتزوير الانتخابات".