08 يوليو 2019
قصة حب
سمعتُ مرةً حكاية من راديو سيارتي. تقطَّعَ بثُّ الراديو في أكثر من منعطف، فتقطَّعت أوصال الحكاية. لم تكن الحكاية ـ القصة بضمير المتكلم، كما أنها ليست تلك التي سمّيتها "بثاً متقطعاً". التشابه بين الحكايتين هو في تقطّع البثِّ ليس إلاَّ. عدا ذلك فهما مختلفتان في كل شيء. في الحكاية الجديدة كان هناك راوٍ يروي. لم أعرف أين جرت الحكاية المنطوقة بحرارة أهل المتوسط وشمسه، لكن من المؤكد أنها لم تحدث على ضفتي ذلك البحر القديم، بل في بلاد قاتمةٍ قد تكون في الشمال الأوروبي، وهذا ما أثار استغرابي.
لم تكن مشكلة البث المتقطّع بسبب "هوائي" سيارتي القديمة، ولا بسبب وجود منشآت تُشوِّشُ البثَّ عمداً، كما يحدث في مناطق لا تزال تستخدم هذه الأساليب البالية في مراقبة ما لا يروقها من الكلام، وإنما بسبب الراديو نفسه. هذا ما قاله لي كهربائي سيارات وضع يده على أحشاء راديو سيارتي، وقال: انظر. إنها تالفة. ولا مجال لإصلاحها!
لم أعرف لمن كانت تلك الحكاية ـ القصة التي سمعت أطرافاً ممزّقة منها، فالعبرة، إن كانت هناك عبرة، هي في القصة وليست في الاسم. ولكن، مع ذلك، لا بدَّ أنَّ الحكاية ـ القصة لكاتبٍ معروف، فالمحطة التي أذاعتها لا تبث قصصاً لهواةٍ أو مبتدئين. هناك بطلان. وثمّة استحالات تمنعهما من الإفصاح عن مشاعرهما علنا. لم أعرف ما هي تلك الاستحالات. ذكّرني ذلك بأمكنةٍ عشت فيها قبل عقود طويلة، تحدث فيها أشياء كهذه، ونسيت اسمها. المهم أن بطلي القصة اتفقا على نسب الأحوال والمشاعر التي تنتابهما، ولا تجد مخرجا يلائم واقعهما الأسير، إلى شخصيْن مفترضين. صارت لشخصي الحكاية المتخيلة حياة من أيام ومواعيد وموسيقى ولهفاتٍ مكتومة، فراحت تكتسب تلك الحياة الافتراضية عظماً ولحماً وأنفاساً. صار شخصا الحكاية ـ القناع يلتقيان في أمكنةٍ تصنعها المصادفة المدبّرة، ويقفان في عرباتٍ صغيرة معلقة بحبال كهربائية، تصل بين جبلين متقابلين، يشكلان تلك المدينة السحرية، الأمر الذي أعطى رجل الحكاية فرصةً ذهبيةً كي يرتشف بعينيه كل تفصيل صغير في وجهها، وكل خلجةٍ أو حركة عفوية تقوم بها. لكن سيطرأ تعقيد على رواية أحوال بطلي الحكاية، فكيف سيعرفان ما يجري للكائنين اللذين اخترعاهما، وماذا يقولان لبعضهما بعيداً عنهما من دون أن يرويها أحدٌ بلسان محايد؟
فاخترعا فكرة الراوي.
وتلك تقنية، أو حيلة، قصصية معروفة.
فمن هو الراوي الذي سرد، في الراديو، فصولاً مجتزأة من الحكاية، ما دام أنه شخصٌ، أو ضمير، آخر غير بطلي الحكاية التي حدثت في عربةٍ معلقةٍ بحبل كهربائي؟
من الصعب أن نعرف. ولكنه، جرياً على ما تفعله القصص والروايات، قد يكون الكاتب. ليس علينا، في كل حال، البحث عن تطابقاتٍ بين الواقع والكتابة، فمن يفعل ذلك لا يصل إلى أبعد من حدود السيرة الذاتية، وليس هذا طموح الأدب. هناك، إذن، أربعة أشخاص: الرجل المفترض الذي يسمى "الغريب" والمرأة المفترضة التي تسمى "السيدة"، ورجل الحكاية وامرأتها الحقيقيان اللذان لم أتمكّن من معرفة اسميهما، لأن الراوي لم يسمّهما، أشار إليهما، فقط، بتلك التسمية المضللة.
وبصرف النظر عمّن يروي، فقد استغرق الرجل والمرأة الحقيقيان في لعبة الحكاية.
صار ممكنا، مثلا، أن يقول الرجل الحقيقي إن رجل الحكاية غير المسمّى مشتاق إلى امرأة الحكاية، وصار طبيعياً أن يتحدّث، ما دام الأمر يتعلق بامرأةٍ في حكاية، عن ملمس يدها وعنقها، وعن تلك الرغبة المحتدمة التي تتملك رجل الحكاية في ضمّها، لكي يتأكّد أنها امرأة من لحم ودم، وليست من كلمات، أو ربما ليتأكد، أساساً، ما إذا كان، هو نفسه، شخصاً حقيقياً يتنفس ويخفق ويضطرب ويشتاق ويرغب. التطور الأبرز الذي طرأ على بطلي الحكاية، ومن يختبئان خلفها، أن المرأة (لا ندري حتى الآن إن كانت المتخيّلة أم الحقيقية) قالت كلمةً لا ينطقها عادةً إلاَّ من لهم دورة دموية حقيقية، فقد نطقت، وعلى نحو سريع، أرادت أن يُسمع ولا يُسمع، كلمة قد تعني في لغة بلادها "مشتاقة"، وقد تعني "مريضة".
حدث هذا، كما قال الراوي، في مساء ماطر وكئيب، فتوقف المطر، وانقشعت السماء، وسطعت شمسٌ من تلك الشموس التي لا تسطع هكذا، إلاَّ بعدما يتشقق أديم الأرض من العطش.