قيد الصحو والانتباه
يمكن اعتباره سؤالاً طريفاً، وقد يكون مستفزاً في أحيان أخرى. نصادفه في الشارع أينما وجهنا أبصارنا، يحتل خلفيات سيارات كثيرة على اختلاف أحجامها. تحمل، في العادة، أسماء شركات كبرى، وأخرى مغمورة، تقدم لجمهور المستهلكين خدمات تجارية متنوعة. العبارة مكتوبة في العادة بخط واضح وأحرف ضخمة، وقد صيغت على شكل عبارة استفهامية، تخاطب المارة باسم إدارة الشركة، وتوجه سؤالاً على لسان السائق مفاده: كيف ترى قيادتي؟ وكتبت مع السؤال، وبالحجم نفسه، كذلك أرقام هواتف، تتيح لمن يرغب من متلقي الخدمة الاتصال بمكاتب الشركة ربة العمل، لكي يفيدها بتقرير عن مدى كفاءة السائق، والتزامه بقواعد السير، وحرصه على سمعة الشركة، وحسن تمثيله لها على الطرقات. وهكذا تنجح في توظيف زبائنها لغايات المراقبة والتفتيش، ما يضمن انضباط الموظف البعيد عن رقابة إدارة الشركة المباشرة.
الجملة إياها وضعت بمكر إداري بالغ، بهدف وضع الموظف تحت المجهر، طوال الوقت، بحيث لا تبيح له لحظة استرخاء، تجعله يغفل مهمته الأساسية سفيراً متجولاً باسم الشركة، وتظل الغاية من إجراء كهذا اكتساب المصداقية والتفوق والثبات في سوق العمل الخدماتي الحافل بالتنافس الشرس، وتعمد دوائر التسويق في فنادق الخمس نجوم، الحريصة على معاييرها فائقة الدقة، إلى تقديم استبيان استقصائي ذي طبيعية تلقينية، يقدمه موظفو هذه المرافق، مشفوعاً بابتسامة عريضة، تضع متلقي الخدمة في حرج المجاملة. وتلجأ شركات الاتصال إلى أسلوب مشابه، حين تبلغ هذه الشركات، وبصوت آلي محايد، المستهلك الذي يرغب في الاستفادة من إحدى خدمات الشركة، بأن المكالمة مسجلة لإسباب تتعلق بالجودة، ما يضع المستهلك، أحياناً، في ارتباك مواجهة رقابة ذات طابع تجسسي، يجد نفسه صار شريكاً فيها.
يظل كل ما سلف أساليب إدارية مشروعة، تفتقت عنها أذهان خبراء اقتصاد وتسويق وعلاقات عامة، على الرغم من شبهة انتهاك الخصوصية، في أحيان كثيرة. ومن باب الفانتازيا المحضة، وانسجاماً مع غرائبية ما يدور في حياتنا المعاصرة من أحداث، تجاوزت نطاق المعقول بكثير، دعنا، عزيزي القارئ، نتخيل، في لعبة ذهنية ليست بريئة البتة، وجود عبارة كهذه ملتصقة، بحكم القانون، على ظهر كل منا، واضحة وجلية للآخرين. وطالما ما زلنا في نطاق الخيال غير العلمي، فلن ندخل على السؤال أعلاه أي تعديل أو إضافات، بل سندعها كما هي: مجرد سؤال بسيط ومباشر، ولا يحتمل أي تأويل من أي نوع: كيف ترى قيادتي؟ ذلك أن قيادة الحياة مهارة، تحتاج رخصة قيادة، لن ننجح في الحصول عليها من المرة الأولى، بل وسوف نضطر، وعلى غرار ما يحدث في دائرة ترخيص المركبات، إلى تكرار المحاولة، المرة تلو الأخرى، قبل أن نحوز ونستحق تلك الرخصة الثمينة التي تؤهلنا وتبيح لنا السير في دروب هذه الحياة السالكة بصعوبة، مع استمرار احتمالية وقوع الحوادث المؤسفة، وارتكاب المخالفات، ذات الغرامات الباهظة بين الحين والآخر. وإذا تخيلنا، في السياق نفسه، توفر رقم هاتف افتراضي! مرتبط بوعي كل منا وإدراكه، يتيح للآخرين التواصل، مباشرةً، مع رقابة دائمة، والتعبير بدون أدنى مجاملة عن أرائهم ومشاعرهم تجاه طريقة قيادته في الحياة. تُرى، أي نتائج مروعة سوف نتوصل إليها؟ وهل ممكن لأي عبقرية في الوجود، مهما بلغت درجة دقتها التوصل إلى رقابة دائمة على النشاط الإنساني المتعلق بقيم الحق والخير والجمال والعدالة والحب والعطاء والإيثار والتسامح، أكثر صدقاً وبساطة من الضمير الحي، على فرض وجوده، أصلاً، في حالات كثيرة!، شريطة أن يظل هذا الضمير، بطبيعة الحال، قيد الصحو والانتباه.