27 أكتوبر 2024
كلنا كان يعلم
عندما تقع النوائب على قوم، يُصبح من المُحلّل أن يرموا بعضهم بعضا بسهام المسؤولية عنها، أو بتحمل جزء منها، أو عدم التصدي والمقاومة أمام جزء آخر منها. وهكذا يمتلئ تاريخ الأمم بالمراجعات غير الموضوعية، والتي تلي الهزائم أو الانكسارات أو الإحباطات من كل نوع. ويُعتَبَرُ الاعتراف بالمسؤولية عن الكل، أو عن الجزء، ممارسة جريئة تحتاج كثيرا من الشجاعة والإقدام والغيرية والأخلاق. وبما أن هذه المعايير تبقى نسبيةً في المقاييس الإنسانية، يمكن القول إن الثقافات المبنية على التسلطية والخضوع والتمجّد والنفاق هي الأكثر خصوبةً لنمو هذه الممارسات وترعرعها، حيث تصل إلى قِمَمٍ من رمي المسؤولية على الآخر، وعدم تحمّل ولا الجزء اليسير منها.
غالباً ما يُجري باحثون وباحثات غريبون عن المنطقة المعنية بالهزيمة الدراسات الأكثر موضوعيةً لتحليل أسباب الهزائم، سياسية كانت أم عسكرية. لكن هؤلاء، على الرغم من تمكّنهم من المنهجية، ومن أدوات البحث، يبقون في حالةٍ من الضعف المعرفي بخبايا مجتمعات المدروسين وثقافاتهم، والتي يمكن لها أن تُغيّر كثيراً من نتائج البحث، ومن تفسيراته، فعلى الرغم من التجرّد الذي يتسّم به أغلب من لا تعنيهم مباشرةً، وبشكل شبه شخصي، هذه الوقائع التاريخية، إلا من أنها مادة بحث أو موضوعة معرفة، إلا أنهم يبقون عرضةً للوقوع تحت تأثير عناصر الموضوع المدروس. وبالتالي، التعاطف سلباً أو إيجاباً مع جانب من جوانب الأداء أو التعبير.
عموماً، يدرس الباحث الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية التي تُحيط بكل أزمة، بشكل منفصل أو بشكل يجمع عدةً من هذه العوامل أو كلّها. ومن النادر أن يتطرّق
الباحث إلى أنتروبولوجيا التصرّف الإنساني الذي يُملي على ثقافاتٍ معينةٍ تصرفاتٍ معينة. ويعود هذا التخوّف من الخوض في "مستنقع" الأنثروبولوجيا إلى ما يُمكن أن يُعتبر تحليلاً ثقافوياً مرتبطاً بمدرسة "عنصرية" أو "نيو كولونيالية" تدفع البحث والباحث إلى استخلاص نتائج مبينة على أفكار مسبقة وعلى مفاهيم بحثية "مستوردة". وينطبق هذا الواقع على الباحث الغربي المهتم بدراسة ظواهر أنثروبولوجية شرقية عموماً، وليس بالعكس غالب الأحيان. وفي المقابل، يتمتع البحث الأنثروبولوجي، المشرقي عموماً والعربي خصوصاً، بالفقر في المعرفة وفي الأدوات وفي الممارسة.
من أهم ظواهر الهزيمة التي تحيق بمجموعةٍ بشريةٍ، لم تتطوّر فيها الممارسة السياسية بشكل طبيعي، وإنما نمت أو ضَؤلَت في ظلِّ سلطة مستبدّة، يمكن اعتبار رمي الاتهام على الآخرين، وتحميلهم مسؤولية ما آلت إليه الأمور من سوء ومن انكسار، مع توخّي الحذر الشديد في تحاشي تحميل الذات أية نقيصةٍ في التفكير وفي الممارسة. وفي هذا الجو السديمي، وفي ظل انحسار الأمل، أو انعدامه، استطاع بعض الأفراد الذين لعبوا دوراً، أو هكذا خُيّل لهم، في تطوير نظريةٍ تصالحيةٍ مع الهزيمة، لا بد من أنها ستجلب قريباً جداً اهتمام الباحثين الأنثروبولوجيين، وهي تتمحور حول عبارة "كنت أعلم".
من منا لم يلجأ إلى هذه العبارة حمّالة الأوجه؟ فالكل كان يعلم، وهو يشكو أن الآخرين لم يستمعوا إلى صفارة الإنذار التي ما فتئ أن أطلقها لتحاشي المأساة في أقل تقدير، أو المآسي في أفضلها. ففي الشأن السوري، برز العالمون من كل حدبٍ وصوب، وكأننا بهم منتظرين في كواليس المسرح المغبرة، ليخرجوا بين المشاهد التي تحمل الخيبات المتتالية، ليقولوا: ألم نقل لكم؟ كنا نعلم.. من هؤلاء من انخرط في المشهد، وأدى ما أدّاه من دورٍ لم يصل، في إنجازه،
إلى نتيجة إيجابية. ومنهم من لم يلمس أياً من أدوات المشهد وأثاثه، بل اكتفى بالتشفّي بمن كان على مسرحه، مكرّراً عبارات العلم المسبق بالخيبات وبالانكسارات وبالهزائم. النوع الأخير هو الأكثر إثارةً لاهتمام الأنثروبولوجيين، كما الأطباء النفسيين، فالسلبية المتجسّدة في الأداء وفي التعبير كافية لملء صحائف يمكن لها أن تفيد يوماً في المساعدة على تجاوز هذا "المرض"، أو التعامل معه بما يليق به من خطاب أخلاقيٍّ، وتحليلٍ نفسي، يُساعد المصاب به جزئياً مبدئياً، لكنه يقي أيضاً من تقع عليه ويلاتُه بشكل كلي وفعال. فهذا كان يعلم أن الإسلاميين سيهيمنون على المشهد السياسي للمعارضة، فانكفأ في جحر الخلد. وذاك كان يعلم بميولٍ عنفيةٍ لدى بعض مكونات الحراك الاحتجاجي، فاختار السلمية في وضعية الموت الانعزالي. وثالثٌ كان يعلم أن المجتمع الدولي سيبيع السوريين أوهاماً ووعوداً معسولة، ولن ينفّذ منها حرفاً، فشيطن الأجنبي، متجاوزاً خطاب السلطة القائم على نظرية المندسّين والمؤامرة. ورابعٌ كان يعلم أن الطائفية الاجتماعية ستنعكس سلباً على الأداء السياسي، فترك الدفّ وامتنع عن الرقص. وخامسٌ بعد الألف، كان يعلم أن هذه القوة الخارجية أو تلك ستتدخل، فاختار أن يُراقب المشهد، ممتنعاً عن الخوض فيه تحليلاً وتوعية.
تبيّن الآن أن الجميع كان يعلم بما يبرّئ ساحته من المسؤولية عن الأخطاء، أو السلبية القاتلة في الامتناع عن القيام بأي فعل. في المقابل، لا أحد يعلم أو يريد أن يعلم أن الهزيمة مسؤولية جماعية لمن انخرط في العمل العام، ولمن امتنع عن ذلك.
عموماً، يدرس الباحث الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية التي تُحيط بكل أزمة، بشكل منفصل أو بشكل يجمع عدةً من هذه العوامل أو كلّها. ومن النادر أن يتطرّق
من أهم ظواهر الهزيمة التي تحيق بمجموعةٍ بشريةٍ، لم تتطوّر فيها الممارسة السياسية بشكل طبيعي، وإنما نمت أو ضَؤلَت في ظلِّ سلطة مستبدّة، يمكن اعتبار رمي الاتهام على الآخرين، وتحميلهم مسؤولية ما آلت إليه الأمور من سوء ومن انكسار، مع توخّي الحذر الشديد في تحاشي تحميل الذات أية نقيصةٍ في التفكير وفي الممارسة. وفي هذا الجو السديمي، وفي ظل انحسار الأمل، أو انعدامه، استطاع بعض الأفراد الذين لعبوا دوراً، أو هكذا خُيّل لهم، في تطوير نظريةٍ تصالحيةٍ مع الهزيمة، لا بد من أنها ستجلب قريباً جداً اهتمام الباحثين الأنثروبولوجيين، وهي تتمحور حول عبارة "كنت أعلم".
من منا لم يلجأ إلى هذه العبارة حمّالة الأوجه؟ فالكل كان يعلم، وهو يشكو أن الآخرين لم يستمعوا إلى صفارة الإنذار التي ما فتئ أن أطلقها لتحاشي المأساة في أقل تقدير، أو المآسي في أفضلها. ففي الشأن السوري، برز العالمون من كل حدبٍ وصوب، وكأننا بهم منتظرين في كواليس المسرح المغبرة، ليخرجوا بين المشاهد التي تحمل الخيبات المتتالية، ليقولوا: ألم نقل لكم؟ كنا نعلم.. من هؤلاء من انخرط في المشهد، وأدى ما أدّاه من دورٍ لم يصل، في إنجازه،
تبيّن الآن أن الجميع كان يعلم بما يبرّئ ساحته من المسؤولية عن الأخطاء، أو السلبية القاتلة في الامتناع عن القيام بأي فعل. في المقابل، لا أحد يعلم أو يريد أن يعلم أن الهزيمة مسؤولية جماعية لمن انخرط في العمل العام، ولمن امتنع عن ذلك.