سنعلمهم كيف يهربون
فيديل. فيديل
ما سرّك فيديل؟
أي طريق يختارون، ستُري (اليانكيز) الجحيم
كلمات ردّدها الكوبيون في ليلة متوترة من أكتوبر/تشرين الأول 1962، ظنّوا فيها أن قنابل "سيد الإمبريالية" جون كينيدي، ستسقط على رؤوسهم، وأنهم سيواجهونها بصواريخ الحليف السوفييتي النووية المنصوبة في الجزيرة. هكذا تروي ابنة فيديل الوحيدة، ألينا سانشيز، (لديه سبعة أبناء وبنت واحدة من 4 نساء)، في كتابها "ابنة كاسترو".
تبدو الجزيرة الكوبية، هذه الأيام، بعد سنوات عجاف من الحصار الأميركي، وقُبيل الولوج المتوقع إلى النظام العالمي الجديد، وكأنّها كوكب منفصل عن الأرض. كوكب أحمر، لا يزال يتمسك ويتفاخر بمبادئه الشيوعية، مع أنّه القلعة الأخيرة الصامدة في هذا المحور.
قلعة محصّنة بقوانين زعيم أوحد، فيديل كاسترو؛ وإن أتعبه العجز والمرض ودفعه إلى نقل الشعلة لأخيه راوول. على مدى 47 عاماً، بنى الشاب الثائر، الذي كان، كوكبه. هنا، لا رأس مال، ولا خصخصة، ولا توحّش. شيوعية خالصة. لكنّها "شيوعية" كاسترو المستوحاة من الستالينية؛ تلك التي تتطلّب حكماً حديدياً لإغلاق أي ثغرة، مادية أو افتراضية، ممكن أن ينفذ منها الأعداء والجواسيس.
في خمسينيات القرن الماضي، كانت الجزيرة برعاية الأميركيين، حوّلوها إلى حديقة خلفية لأعمالهم ونشاطاتهم السياحية والتجارية، بسطوة رجلهم، الرئيس في ذلك الحين، فولغنسيو باتيستا. كانت تنتشر فيها صالات القمار والنوادي الليلية الخاصة بالأميركيين والعاملين معهم. شُبهت حينها بلاس فيغاس. أنشأوا العديد من الأعمال التجارية. كانوا يتنقلون بالسيارات الأميركية الفاخرة، مع الأقلية الثرية الحاكمة في البلاد، وكانت واشنطن تسطو على إنتاج قصب السكر، الذي تشتهر به الجزيرة، فيما يعاني الشعب الكوبي الفقر والعوز.
تمرّد المحامي العشريني فيديل على الراعي الأميركي. كان متأثراً بالفيلسوف والشاعر والبطل القومي، خوسي مارتي، الذي ناضل بدوره، لدحر الاستعمار الإسباني عن الجزيرة، وقضى في معركة دوس ريوس (في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر). غالباً ما ظهرت صور مارتي في خلفية الصور القديمة لفيديل، كما استعان بكلماته في خطاباته ضدّ الاستعمار والإمبريالية الأميركية.
في البدء.. كانت ثورة
كانت بداية التمرّد بمسيرة إلى السفارة الأميركية، ثم التخطيط الفعلي لطرد الأميركيين ودكتاتور هافانا. فأسس فيديل لذلك حركة متمرّدة مسلّحة، وخطط لتنفيذ أول هجوم، استهدف حينها ثكنة عسكرية في سانتياغو، جنوب كوبا، في 26 يوليو/تموز 1953. الهجوم فشل بالكامل، وقُتل غالبية رفاق فيديل.
لم يثبط ذلك عزيمة الرجل، الذي سُجن مع من نجا من حركة 26 يوليو، ثم خرج قبل إنهاء مدّة حكمه. عاد وأقنع رفاقاً له بالتمرّد العسكري. شدّوا الرحال إلى سيرا مايسترا في مجازفة كادت تودي بحياتهم، بعدما ركبوا البحر على متن مركب مهترئ.
تدرّبوا على السلاح لأشهر، مختبئين بين الأشجار وفي المستنقعات من جنود باتيستا. انضم إليهم الفلاحون لاحقاً، وأيضاً شاب أرجنتيني عشريني رومنطيقي، كان يحلم بتحرير أميركا اللاتينية، هو أرنيستو غيفارا.
نجح المتمرّدون وطردوا الدكتاتور، في معارك متتالية انتهت في معركة سانتا كلارا التي خاضتها مجموعة غيفارا.
انتصرت الثورة. حُمل الأبطال على أكتاف الفلاحين يجوبون بهم شوارع هافانا وسانتا كلارا. أُخليت المباني الحكومية وتلك التجارية التي تعود للأميركيين وحلفائهم الكوبيين، الذين حملوا حقيبة يد وهربوا تباعاً. لا تزال تلك المباني على حالها، حتى اليوم، وضعت الحكومة يدها عليها وأبقتها فارغة، تاركة اللافتة التي تشير إلى ملكيتها القديمة، فيما حُوّلت بعض المباني الحكومية إلى متاحف.
اجتمع الثوار حول طاولة مستطيلة لتدبير أمر البلاد. اتفقوا في ميدان المعركة، لكنهم اختلفوا على تلك الطاولة. سأل الرفاقُ فيديل عن الانتخابات التي خططوا لها، في الأيام الأولى للثورة، فتمسك برفضها، بحجة أنها قد تهدّد الثورة، فالإمبرياليون والأعداء يتربصون بها من كل حدب وصوب. كانت القرارات عسكرية وحاسمة، عُلّقت المشانق لـ"العملاء" في الشوارع. كانت تلك أيضاً مطالب الشعب الكوبي، الذي أراد أن يقتص من قتلة آبائه وأبنائه. أُبعد رفاق الثورة الذين وقفوا عقبة أمام "إصلاحات وقوانين" فيديل، الذي توجّته زعيماً حمامة بيضاء حطت على كتفه أثناء إلقاء خطابه الأول إلى الجماهير، في مباركة من "الآلهة" (بحسب ديانة سانتيريا) للقائد الشيوعي. مشهد طيور الحمام يتنقل بخفة بين تماثيل الأبطال أمر مألوف في هافانا، وعادة ما يتخذ من رؤوسهم مستقرّاً له.
رفاق زُجّوا في المعتقلات وآخرون اختفت آثارهم. لكن لا يهم، فإن انتصار الثورة تطلّب الحزم.
...يتبع