كيد النساء
انتحلتُ العذر لصغيرتي، باكتشافي أن كيد النساء تاريخياً متوارثٌ في العرق النسوي، وأن هذا الكيد يزداد حنكةً وتدبيراً، إذا كان موجهاً لمعركتها مع بنات جنسها، لأنها تكون على يقينٍ أن غريمها لا يقلّ عنها ذكاءً وحنكةً ومكراً. وهكذا بت مطمئنةً أن لا خلل نفسياً تعاني منه الصغيرة، حين تؤكد لي، في كل مرة، تحتاج فيها إلى شراء ملابس، أنها تريد ملابس مميزة، إلى درجة أن أحد باعة الملابس علق، في إحدى المناسبات، ضاحكاً، أنها بحاجة لمصمم أزياء خاص، لكي يصمّم لها ما تريد ثم ينتحر أو تقتله هي بيدها، مثلما قتل الملك النعمان مهندسه سنمار الذي أخبره، بعد أن صمم له قصر الخورنق، أن هناك آجرّة لو زالت لسقط القصر، فألقاه النعمان من فوق القصر، ليحفظ السر ويحافظ على القصر.
استسلمت لكيد الصغيرة التي لا تريد أن ترتدي أيٌّ من صويحباتها مثلها، وقد أعلنت لي، بصراحة مخيفة، أنها سوف تلقي الفستان الجديد في خزانة الملابس المهملة، إذا ما اكتشفت أن إحداهن اشترت مثله، أو آخر يمت لفستانها بصلة قرابة، ولو من بعيد. وتذكّرت أن الإمبراطورة جوزفين، زوجة نابليون بونابرت، علمت أن سيدة تكرهها بشدة نوت أن تحضر إحدى حفلات البلاط، وهي ترتدي ثوباً أخضر، فعمدت، وبأقصى سرعتها، إلى تغيير لون الزخرفة في قاعة الاستقبال إلى درجة من درجات اللون الأزرق، لكي يبدو ثوب تلك السيدة ذا لون صارخ ومبتذلاً، بعكس ما خططت له صاحبته. وكانت جدتي تحدثني عن اتفاقيات تعقدها النساء مع خياطة الحي، لكي لا تقوم بتسريب موديل خاطته لإحداهن، إلى درجة أن إحداهن كانت تعتقل الخياطة في بيتها شهراً، هي فترة خياطة جهاز ابنتها، لكي لا تلتقي بإحدى الجارات، وتكشف عن تصميم إحدى القطع الخاصة بابنتها، والتي تكون ابنة أحد الوجهاء والذي يتحمل كلفة إقامة الخياطة، وكأنها في فندق خمسة نجوم.
في حفل تخرج ابنتي، والذي عمت فيه الفوضى، وساد الزحام، على عكس ما توقعت وحلمت، إلى درجة أنني أصبحت مثل "الشاهد إللي ما شافش حاجة"، وتيقنت أن مقولة رئيسة وزراء إسرائيل الراحلة، غولدا مائير، في محلها حين قالت: لن ينتصر العرب إلا حين أراهم يقفون في طابور لصعود الباص. .. لأن الدخول إلى قاعة الاحتفال كان يشبه "طابور الجمعية" في الأفلام المصرية، وتذكّرت فيلماً مصرياً استعرض مساوئ الشارع المصري، والتي تنطبق على الشوارع والاحتفالات العربية، وهو "هنا القاهرة"، حين وفد محمد صبحي من الصعيد أول مرة إلى العاصمة، ليقدم مشروعه للوزير، لتحسين مواصفات رغيف الخبز، وقد وضع في مخططه أن يقضي يومه متنقلاً في الأماكن التاريخية والسياحية في القاهرة، والتي يطلق عليها أهل الصعيد اسم مصر، لكنه فوجئ بالزحام والفوضى والضجيج، ووقوعه في مطبات ومشكلات ومآزق، ولم يستطع أن ينفذ برنامجه.
كذلك حدث معي، لأن الزحام والفوضى منعاني من رؤية ابنتي تتسلم شهادة تخرّجها، وكان السبب الأهم وقوف ثلاث صبايا فوق الكراسي أمامي، وأمام الأمهات والآباء الجالسين حولي، وقد أعرب الجميع عن سخطهم من تصرفهن وعدم احترامهن مشاعر الآخرين. وكلما أمعن هؤلاء في الطلب منهن أن يجلسن على الكراسي، بدلاً من الوقوف، كن يزددن عناداً، ويبدأن في التصفيق والتهليل. وكنت طوال الوقت أحتمل وأتابع ما يجري بصمت، حتى نطقت بعبارة دفعتهن إلى النزول سريعاً ويغادرن المكان، فقد وجهت كلامي لإحدى الأمهات، وتعمدت أن يسمعن ما أقول: والله كنت سأحتمل وقوفهن لولا بدانتهن، لأنهن يخفين مكان العرض تماماً، ولو كن نحيفاتٍ لأمكننا الرؤية، لكنهن عريضات بعرض القاعة. .. وهنا انسللن عن الكراسي، وغادرن المكان بسرعة، وسط غمز الأمهات لي، ورفع الآباء أصابع الإبهام نحوي، إشارة إلى تأييدهم حنكتي، وهمس ابني في أذني: "كيد الأمهات غلب كيد البنات".