هذا السؤال يحاول أن يجد له مشروعية أن يُطرح قبل أن يجد الإجابة على نفسه، فلطالما جرى التعامل مع القضية الفلسطينية وما نتج عنها من أنظمة وأطر، باستسهال مفاهيمي، مستنداً على مقولة "الحق"، وهو تأسيس رغم صحته لا يبرر التماهي بين الحق ومقاربته سياسياً، فالحق مفهوم غير اجتهادي، لكن مقاربته كذلك.
لقد اقترحت الحداثة "الفلسفة السياسية" عقباً لــ"اللاهوت السياسي" وبنت عليه أيضاً، وبذلك زاحمته على جهازه المفاهيمي من دون أن تقترح أُفقاً غيره، فباتت "الهُويّة القومية" محلّ "الهُوية الدينية" أو هُوية "ما قبل دولة"، وأشرفت الدولة الحديثة بنفسها على عملية بناء الهُوية بقوة العنف والحلم، ولاحقاً استخدمتها في حروبها الخاصة، بدون عناء يذكر.
في حالة الحركة الوطنية الفلسطينية، كان الحضور العنيف للآخر معجّلاً في صياغة هُويّة مُتميّزة وليست مُتمايزة للفلسطيينين عن العرب، وكانت مهمة تحويل هذا التميّز إلى تمايز مَنوطة بمنظمة التحرير، لعبء أراد العرب التخلص منه ولنزوع دولانيّ كان متلهفاً أكثر من اللازم عند قيادة منظمة التحرير.
إنّ طرح سؤال الدولة كان مأزومًا لحظة ولادته، فهو من جهة يُعرّف الصراع كمشكلة بحاجة إلى حل، وأدّى ذلك إلى تحوّل الحركة الوطنية نحو صيرورة لا متناهية من البحث عن حلول، وخلال طريقها لذلك كانت في حالة مستمرة من الكف عن أن تكون ما كانته من قبل.
من جهة أخرى، فإنها جعلت سقف طموحها هو الالتحاق في التقسيم الاستعماري للمنطقة كدولة قُطرية، ثم إنها حلّت مفهوم الوطن بما هو انتماء واسع وعريض إلى مفهوم الدولة السياسي الذي يمر عبر قنوات قانونية تجعل من المستحيل لاحقًا لهذا الجسم أن يستكمل مهامه.
نحن نعرف أنّ الوطن اليوم لا يعني شيئًا غير الدولة الوطنية، لكنّ "التضحية" من أجل حقنا في أن نكون "حداثيين" لا تشبه "التضحية" من أجل حقنا في أن نكون أحراراً.
تماهت الدولة مع الهوية الفلسطينية، وبذلك أُلحقت "القضية الفلسطينية" بمشروع الدولة/الهوية، مع أنّ القضية, بما هي مفهوم وجودي سياسي, مفتوحة على مدافعة العدوان وليس مدافعة الآخر، بمعنى أنها تشتق مقاومتها من مكان وجودها الحضاري والاخلاقي، وليس بالضدّ من مشاريع الآخرين، وإن كانت تلتقي معهم في معركة ما لاحقاً.
ذهبت العديد من الدراسات السسيولوجية لاعتبار منظمة التحرير محاكاة المغلوب للغالب، فهي تقليد لصورة المنظمة الصهيونية، وكذلك في سعيها الدولاني والهوياتي، بمعنى أنّ الموقع الدوني للفلسطينيين جعلهم يحاكون الغالب في تجربته، على اعتبار أن تجربة هزيمتهم هي ذاتها تجربة نجاح الآخرين، وبذلك تكون وصفة النجاح هي تقليد الغالب لا أكثر ولا اقل.
ومع وجاهة هذا التحليل إلا أنه أغفل أن الفلسفة السياسية الحديثة أحدثت ما يشبه الإغلاق التام على إمكانية رؤية الناس لأنفسهم خارج الأطر الدولاتية.
فإن كان لا بد من نضال غير محروم سلفاً من أشكال الوجود المتعددة، ومتواصلاً بالمعنى الحضاري والاخلاقي مع شعوب أخرى تشاركه التجربة أو تتفق معه حولها، يجب التفكير في السياسة بوصفها سعيا مزدوجًا أولا: لإنجاز التحرير من الهيمنة الامبريالية وأدواتها. وثانياً: تحرير الإنسان وترتيب وجوده بأُطر واسعة متجاوزة لاقتراحات الحداثة الضيقة.
(باحث فلسطيني / رام الله)