كي ندرك الألم كما هو
"في جميع بقاع الأرض، يلتقي البشر حول هدف واحد، المشاركة بحرّية في الأحداث والمداولات التي تؤثر على حياتهم". محبوب الحق، لا يعرف الألم سوى صاحبه، وكان أهم وأعظم ما حدث، في السنوات الأخيرة، أننا استمعنا إلى أنفسنا أكثر من قبل،.. وربما تكون الحالة القائمة، اليوم، مستمدة من أننا حاولنا إسماع صوتنا، وأن نكتشف بأنفسنا ذواتنا، فلم نكن قبل الإنترنت، بمتوالياتها المعقدة، قادرين على المشاركة والتعبير ومحاولة التـأثير فيما يخصنا... كنا مثل مريض عاجز عن وصف آلامه، ويخمّن الأطباء بأدواتهم، من دون أن يعرفوا من المريض شيئاً، ويحاول أوصياء على المريض المشاركة مع الأطباء والإدارة، ولكن صاحب الألم غير قادر أن يقول ما مشكلته وآلامه الحقيقية، وكما هي.
ولكن، لم يكن سهلاً أننا (المجتمعات والطبقات الوسطى والفقيرة) أصبحنا، فجأة، قادرين على التعبير والتواصل، كنا ضحية الإنجاز، ولعلنا خسرنا، في هذه المرحلة من الصدمة، أكثر مما كنا نخسر ونحن "بكُمْ"، مثل طفل ولد لا يسمع، وبعد سنوات من ولادته، مكنه الأطباء من الاستماع، فصارت الأصوات ترعبه، وتشعره بألم وخوف، لم يعد قادراً على احتمال الصوت، وصار بحاجة إلى تدريب وتهيئة، ليسمع الأصوات ويفهمها ويتعامل معها.
والذين يبصرون بعد عمى يحتاجون إلى تدريب قاسٍ وطويل، ليتعلموا كيف يحركون أعصابهم، وينظموا إدراكهم المصاحب للنظر، وبعضهم كان يفضل أن يغمض عينيه، ويسير مهتدياً بعصاه! فذلك أسهل، كما كانوا يقولون، من المشي في الطرقات، وهم ينظرون إلى الناس، والمركبات تتحرك بسرعة، وفي اتجاهات متعددة، فلا يعرفون كيف يتجنبون الاصطدام بالناس، بل وكيف يحركون أرجلهم وأجسامهم!
ولا بأس في ذلك على أية حال، فهذه الآلام، على صعوبتها وقسوتها، تمثل ضريبة للوعي، بعد غيابٍ طويل، ولا مناص من دفعها. صحيح أن كثيراً من المجتمعات والبلاد العربية دخلت في مرحلة من الفوضى والخوف والشعور بأنها كانت في حالة أفضل، أو أقل سوءاً، وهو شعور صحيح بالتأكيد. ولكن، يجب أن نستوعب ذلك، ونساعد أنفسنا، والأكثر أهمية وضرورة أن نوظف اللحظة القائمة، لنستمع إلى أنفسنا جيداً، ثم نسمع أنفسنا إلى العالم، فهذا الفهم الخاطئ لأنفسنا، وفهم العالم الخاطئ لنا، يجعلنا في المربع الذي لا يناسبنا، ولا نريده، ماذا نعتقد عن أنفسنا؟ وماذا يعتقد العالم عنا؟ وماذا نظن أن العالم يعتقده؟ وهل يتطابق ظننا مع ظن العالم؟ كيف نرى أنفسنا كما هي، وكيف نجعل العالم يرانا، كما نحب أن يرانا؟
يمكن القول إن الشعوب العربية كانت تعبر عن شعورها بالظلم، لكنها لم تدرك العدل الذي تريده، أو لم تسمع النخب والسلطات والعالم عن العدل كما تدركه وتعتقده،.. لا يكفي الشعور بالظلم لتحقيق العدل، ولا حتى إدراكه، ولا يدلنا كيف نرفع الظلم ونزيله!
أن ندرك آلامنا، ونفكر كيف نساعد أنفسنا، بما يعني ذلك من قدرة على الحوار والاستماع، ثم تحويل الصراع إلى عمليات سلمية، تتقبل جميع الأطراف والأفكار، وتتيح للجميع أن يشارك، ويعبر، ويحاول أن يسمع صوته، ليس ترفاً، ولا حلماً جميلاً، ولكنه، اليوم، ضرورة حياتية، لكي نبقى على قيد الحياة، ففي هذا الصراع العنيف الرافض للآخر، يعني غياب الجميع، لأنه، وببساطة، لا يمكن، ولم يكن ممكناً إلغاء الآخر، مهما كان يملك كل طرف من قوة وقدرة، .. ليس ثمة قوة قادرة على الإلغاء.
وفي القدرة على الاستماع والتعبير، تبدأ المحاولات الصحيحة لفهم الألم ومعالجته، لا يمكن تجاوز هذه البداية؛ أن نسمع لبعضنا كما يتألم كل واحد. وفي تحويل هذه الآلام المفهومة، على تناقضها واختلافها، إلى أفكار وجدل، ندرك، ببساطة وتلقائية، كيف نمضي، وإلى أين نمضي!
في هذه اللحظة، لا نملك الإجابة الصحيحة، أو الملائمة، للسؤال "كيف، وإلى أين نمضي؟" لأن هذا الصواب لم يتشكل بعد، ليس موجوداً بعد، أو ليس موجوداً ونحاول اكتشافه، لكنه (الصواب) اختراع ينشأ من الجدل بين الأصوات والآلام، لن نعرفه، ولا نقدر على تحديده مسبقاً. ولكن، يكفينا لأجل ذلك أن نكون مستعدين قادرين على الإسماع والاستماع، ولا بأس، بعد ذلك، أن تكون النتيجة ما تكون!