14 نوفمبر 2018
لا أفق للحضور المسيحي في سورية
هل هناك أفق مستقبلي لحضور المسيحيين في سورية؟ سؤال إشكالي مثير للجدل. ويعلم معارفي أنني بروفسور في اللاهوتيات والفكر المسيحي-الإسلامي، وأنني ليبرالي علماني، أبعد ما يكون عن الدعوة للحفاظ على حقوق البشر بدلالة طوائفهم أو أديانهم أو خياراتهم العقائدية والدينية. وحين أتحدث عن المسيحيين بعينهم، أفعل هذا باحثاً ومحللاً. أود في هذه السطور أن أقدم، كمواطن سوري مؤمن بثورة السوريين وانتفاضتهم ضد نظام القتل والإجرام، وكسوري يفكر بعمق بسورية المستقبل، ويتأمل بمآلاته، لا لأترحم على ماضٍ سبق الثورة (ماضٍ أسود وشرير)، ولا لأدعو إلى مستقبل صراع على حقوق ومكاسب. السؤال الذي أضعه أمام القراء الكرام لطالما طُرحَ عليَّ، أخيراً، في محاضراتي العامة، ومشاركاتي الأكاديمية والثقافية في نشاطات حول سورية.
جوابي، للأسف الشديد، على هذا السؤال صار في الفترة الأخيرة: كلا، لا أفق حقيقياً ملموساً للحضور المسيحي في مستقبل سورية، يمكن للمسيحيين في البلد أن يعولوا عليه (ألفت النظر هنا إلى أن السؤال لا يتعلق بمسألة "الوجود" المسيحي في سورية، بل بمسألة "الحضور"، وهما مسألتان مختلفتان). وتفسيري إجابتي هذه تدور حول النقطتين التاليتين:
أولاً، لطالما كان خيار المسيحيين السوريين أن ينتموا ويعرّفوا أنفسهم في سورية الحديثة بدلالة انتمائهم السوسيولوجي والثقافي والتاريخي للمجموع البشري المكون للشعب السوري. يختلف المسيحيون السوريون، في هذا الأمر، بشكل بنيوي عميق عن المسيحيين في لبنان، مثلاً. فهؤلاء حلموا تاريخياً بتأسيس كيان دولتي جامع، يعرِّف أبناءه بدلالة انتمائهم السوسيولوجي والثقافي لمجموع بشري لبناني. لهذا، خرجت فكرة "لبنان الكبير" من عباءة المسيحيين المارونية، إلا أن مسيحيي لبنان فشلوا في تحقيق حلمهم، كما نلحظ في لبنان المعاصر، وبدل أن يجذبوا باقي الأديان والطوائف في البلد إلى بوتقة حلمهم بأمة جامعة، انجرفوا هم إلى بوتقة باقي التجمعات البشرية الطائفية والدينية والتشرذمية. يختلف مسيحيو سورية في خيارهم التاريخي عن أقرانهم في لبنان، فهم اختاروا تاريخياً أن يكونوا عرّابي الانخراط والانتماء الصميم لأمة جامعة، ذات هوية إما عربية (المسيحيون البعثيون واليساريون) أو سورية (المسيحيون القوميون السوريون). في ضوء ما آلت إليه حالة الشعب السوري، اليوم، نتيجة مأساته ومقتلته الرهيبة، تلاشت كل الهويات الموحدة للمجموع الشعبي في سورية، فلم يعد الناس يعرِّفون أنفسهم بدلالة عربيتهم أو سوريتهم. تفتت المجموع السوري الأممي إلى تشرذماتٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ ودينيةٍ وديمغرافيةٍ، وحتى مناطقية حالياً. ولأن مسيحيي سورية اختاروا الانتماء لأمة عربية أو سورية بدلالة قومية السوسيولوجيا والثقافة، وليس بدلالة الطائفة والدين والعرق، فإن أي حضور لهم لن يكون ممكناً في قلب سورية مستقبلية، ستكون حتماً طائفية ودينية وعرقية وتحاصصية وديمغرافية التقسيم والبنية.
ثانياً، إن كان على المسيحيين السوريين أن يقولوا رأيهم في حضورهم في مستقبل سورية،
فغالبيتهم الساحقة ستقول إن انتماءها وحضورها في حياة سورية العتيدة سيتوقف حتماً على وجود "دولة" سورية حقيقية وفاعلة، وعلى طبيعة تلك الدولة وبنيتها والذهنية الكامنة وراء تأسيسها. يشعر المسيحيون في سورية بأن الأمر الوحيد الذي سيضمن لهم عيشاً كريماً، عادلاً ومواطنياً حقيقياً في سورية، يحافظ على حقوقهم الطبيعية والإنسانية، ويعاملهم مواطنين فعليين، هو النظام العلماني سياسياً وثقافياً (وليس بالضرورة مجتمعياً) الذي يقوم على مبدأ المواطنة المدنية والقوانين والدساتير الوضعية التعددية والديمقراطية التي لا تعاملهم كطوائف، ولا كأتباع دين أقلوي أو طائفية أو عرقية، ولا كأقليات ذميّة، تحتاج حماية ورعاية. لا يبدو في الأفق أن سورية العتيدة ستكون، في المستقبل القريب، دولة من هذا النوع، أو هذه الماهية. هناك توجه إقليمي ودولي، وحتى سوري محلي، لفرض واقع تطئيفي، تذميمي، تقليلي-تكثيري وتحاصصي سلطوياً وديمغرافياً وعرقياً على سورية التي ستنتج في المستقبل القريب. يختلف مسيحيو سورية، في هذه المسألة أيضاً، عن مسيحيي لبنان، فهؤلاء جزء من التركيبة الطائفية التحاصصية والتقسيمية في الدولة المذكورة، وهم ضنينون على هذا النموذج الدولتي، لأنهم يستمدون حضورهم (وليس وجودهم) منه، ومن ما يحصلون بموجبه عليه من حيثيات ودور. لم يختر مسيحيو سورية، تاريخياً، مثل هذا الخيار، ولم ينخرطوا في أي محاولةٍ لفرضه على الواقع السوري، منذ استقلت سورية الحديثة في القرن العشرين. لهذا، هم لا يعرفون كيف ينخرطون في نظامٍ يشبه النظام اللبناني، إذا ما تم فرضه على سورية، وهم لا يرغبون به أصلاً، كما دلت المواقف والتوجهات التي اتخذها المسيحيون السوريون، سواء الذين مع النظام أو مع الثورة، حيال المقتلة السورية ومواقفهم الديَّانة والمستاءة، بعمق شديد، من المتحاربين فيها على كلا الطرفين.
في ضوء العاملين السابقين، أجيب اليوم، وبأسفٍ شديد، بأنه لا أفق، في الحقيقة، لأي حضور مسيحي فاعل أو ملموس أو فعلي في أي مستقبل سوري، سماته ترسمها مشروطات العاملين السابقي الذكر. لطالما اختار مسيحيو سورية أن يكونوا جزءاً من "أمة"، لا أن يكونوا "أمة" قائمة بذاتها. لطالما تنفسوا هواء الحياة والوجود، بناء على حلمهم بالعيش في دولةٍ علمانيةٍ تعدديةٍ لا طائفية، لاتحاصصية، لا تذميمية ولا تقاسمية. في العقود الخمسة الماضية، حرم نظاما الأسد الأب والابن المسيحيين من عيش هذا الحلم. ولكن، لا يبدو من معطيات اليوم على الأرض، وفي كواليس صنع القرار والأفكار، أن من سيأتي لإدارة سورية في المستقبل، أو يعمل على إعادة بنائها، سيعطيهم فرصة تحقيق هذا الحلم. سيعاني المسيحيون، ومعهم مسلمون كثيرون جداً في سورية الذين يشاركون بالحلم نفسه، ويؤمنون بفكرتي "الأمة" و"الدولة"، من حرمانهم منهما. وربما سنجد يوماً مسلمين سوريين يشاركونني الرأي، ويقولون معي "ليس المسيحيون فقط، بل كذلك المسلمون السوريون المؤمنون بالقيم والمبادئ نفسها، لن يكون لحضورهم أي أفق في سورية المستقبل.".....
جوابي، للأسف الشديد، على هذا السؤال صار في الفترة الأخيرة: كلا، لا أفق حقيقياً ملموساً للحضور المسيحي في مستقبل سورية، يمكن للمسيحيين في البلد أن يعولوا عليه (ألفت النظر هنا إلى أن السؤال لا يتعلق بمسألة "الوجود" المسيحي في سورية، بل بمسألة "الحضور"، وهما مسألتان مختلفتان). وتفسيري إجابتي هذه تدور حول النقطتين التاليتين:
أولاً، لطالما كان خيار المسيحيين السوريين أن ينتموا ويعرّفوا أنفسهم في سورية الحديثة بدلالة انتمائهم السوسيولوجي والثقافي والتاريخي للمجموع البشري المكون للشعب السوري. يختلف المسيحيون السوريون، في هذا الأمر، بشكل بنيوي عميق عن المسيحيين في لبنان، مثلاً. فهؤلاء حلموا تاريخياً بتأسيس كيان دولتي جامع، يعرِّف أبناءه بدلالة انتمائهم السوسيولوجي والثقافي لمجموع بشري لبناني. لهذا، خرجت فكرة "لبنان الكبير" من عباءة المسيحيين المارونية، إلا أن مسيحيي لبنان فشلوا في تحقيق حلمهم، كما نلحظ في لبنان المعاصر، وبدل أن يجذبوا باقي الأديان والطوائف في البلد إلى بوتقة حلمهم بأمة جامعة، انجرفوا هم إلى بوتقة باقي التجمعات البشرية الطائفية والدينية والتشرذمية. يختلف مسيحيو سورية في خيارهم التاريخي عن أقرانهم في لبنان، فهم اختاروا تاريخياً أن يكونوا عرّابي الانخراط والانتماء الصميم لأمة جامعة، ذات هوية إما عربية (المسيحيون البعثيون واليساريون) أو سورية (المسيحيون القوميون السوريون). في ضوء ما آلت إليه حالة الشعب السوري، اليوم، نتيجة مأساته ومقتلته الرهيبة، تلاشت كل الهويات الموحدة للمجموع الشعبي في سورية، فلم يعد الناس يعرِّفون أنفسهم بدلالة عربيتهم أو سوريتهم. تفتت المجموع السوري الأممي إلى تشرذماتٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ ودينيةٍ وديمغرافيةٍ، وحتى مناطقية حالياً. ولأن مسيحيي سورية اختاروا الانتماء لأمة عربية أو سورية بدلالة قومية السوسيولوجيا والثقافة، وليس بدلالة الطائفة والدين والعرق، فإن أي حضور لهم لن يكون ممكناً في قلب سورية مستقبلية، ستكون حتماً طائفية ودينية وعرقية وتحاصصية وديمغرافية التقسيم والبنية.
ثانياً، إن كان على المسيحيين السوريين أن يقولوا رأيهم في حضورهم في مستقبل سورية،
في ضوء العاملين السابقين، أجيب اليوم، وبأسفٍ شديد، بأنه لا أفق، في الحقيقة، لأي حضور مسيحي فاعل أو ملموس أو فعلي في أي مستقبل سوري، سماته ترسمها مشروطات العاملين السابقي الذكر. لطالما اختار مسيحيو سورية أن يكونوا جزءاً من "أمة"، لا أن يكونوا "أمة" قائمة بذاتها. لطالما تنفسوا هواء الحياة والوجود، بناء على حلمهم بالعيش في دولةٍ علمانيةٍ تعدديةٍ لا طائفية، لاتحاصصية، لا تذميمية ولا تقاسمية. في العقود الخمسة الماضية، حرم نظاما الأسد الأب والابن المسيحيين من عيش هذا الحلم. ولكن، لا يبدو من معطيات اليوم على الأرض، وفي كواليس صنع القرار والأفكار، أن من سيأتي لإدارة سورية في المستقبل، أو يعمل على إعادة بنائها، سيعطيهم فرصة تحقيق هذا الحلم. سيعاني المسيحيون، ومعهم مسلمون كثيرون جداً في سورية الذين يشاركون بالحلم نفسه، ويؤمنون بفكرتي "الأمة" و"الدولة"، من حرمانهم منهما. وربما سنجد يوماً مسلمين سوريين يشاركونني الرأي، ويقولون معي "ليس المسيحيون فقط، بل كذلك المسلمون السوريون المؤمنون بالقيم والمبادئ نفسها، لن يكون لحضورهم أي أفق في سورية المستقبل.".....