06 فبراير 2021
لا قداسة في الثورات
ليس في الثورة "مقدّسون"، لا يجوز الاقتراب منهم بالنقد، ولم تكن الثورات العربية لتأتِي بلينين ولا لينكولن ولا أتاتورك، يصير بعيداً عن النقد أو كشف الزيف. ولعلّ من سمات الثورات العربية، بموجتيها، أنها لم تخلع ثوب "القداسة" على شخص أو حدث، بقدر ما قدّست حق الشعوب في التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية. ولم تكن الثورات، في حد ذاتها، فعلاً يأتي بشخص مقدّس، ولم تُقمِ الثوراتُ العربية تماثيل لـ"زعيم خالد" أو "أبٍ مؤسس" أو "قائد محارب"، أو ربما "ناشط كان وسيلة لإطلاق دعوات النزول" لتعطيه العصمة من سؤال الشعوب باسم الثورة، أو شرعية الجلوس فوق العرش عقوداً. بل أذن فعل الثورات العربية للشعوب بإزاحة ثوب القداسة عن طغاةٍ، وعن أنظمة عاشت تزيّف شرعيتها بسردياتٍ تاريخية زائفة، تنهب ثروات الشعوب تسطو على كنوزها باسم شرعية الأمن من الخطر المُحدق من عدوٍّ لا يستطيع أن يطلق عليه رصاصة واحدة مما يطلقها على شعبه، أو الدين العاصم الذي يمنحه احتكاراً لسلطةٍ ورثها، أو الوحدة الوطنية المزعومة والمعلّقة على وجوده.
فتحت الثورات العربية خزائن الأسرار، وكشفت عورات مثقفين وأكاديميين ومدّعين لم يجدوا لأنفسهم مكاناً وسط الحشود الهاتفة، وأسقطت ثوب الكذب والمخادعة ممن عاشوا يمثلون دور الأبطال والمناضلين، وأحياناً الضحايا، ثم تبدّلت جلودهم مع عقبات ومواءمات لم يقدروا على مقاومتها أو رفضها، بعد أن تبدّلوا عند البلايا، وكشفت الأزمات صدأ أخلاقهم وحقيقة ما يكنّون. أظهرت البلايا مثقفين وكتّاباً وأكاديميين ونُشطاء، وربما أصحاب دعوات التظاهر أحياناً، بهشاشة مبادئهم وركاكة أفكارهم، وظهروا لمن سار خلفهم على غير ما أظهروا وأصابوا من تأثر بهم
بنار الشكّ في الثورة ومطالبها، ويا للأسف! والخذلان وفقدان الثقة في نخبٍ كثيرة كشفت اختبارات الثورة زيف ما يظهرون في كتاباتهم وأحاديثهم. الثورات فعل كاشفٌ فاضحٌ لكل ستر مزيف يخدع الشعب، وكما كانت الثورة مسقطةً لسرديات الأنظمة عن نفسها، وعن أحداثٍ أكسبتها شرعية اعتلاء العروش والاستبداد بالشعوب، فضلاً عن خزينة الأسرار التي فتحها المنشقون عن الأنظمة في دول الربيع العربي، فقد أزالت الثورات غطاء القدسية، وتركت الحوار والنقاش سبيلاً لبحث حقيقة سرديات الأنظمة التي عاشت تنصّب نفسها على الشعوب بتزوير التاريخ.
حفلت الثورات العربية بكشف الستر عن أكاذيب الأنظمة التي مكّنتها من التحكّم بالشعوب عقوداً. وقد أنصفت الثورة المصرية الدور المحوري للفريق سعد الدين الشاذلي في انتصار أكتوبر 1973، وكرّمت روحه في ميدان التحرير يوم خلع حسني مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011، مع ميلاد انتصار أوليّ للثورة. وفضحت الثورة السورية اختطاف الجولان وأحاديث المقاومة والممانعة الرخيصة التي أسقطتها وحشية النظام في قتل شعبه، والعجز عن إطلاق رصاصة واحدة على أرض الجولان المحتل. وكشفت الثورة في ليبيا عن أكاذيب انقلاب معمر القذافي على الملك إدريس الذي كان يحرّم الكلام فيه، وتداولت الحكايات، وراح التاريخ يُكتب مرة أخرى. والأمثلة كثيرة في مختبرنا العربي الكبير، ولكن العِبرة أن الثورات العربية لم ولن تخلع ثوب القداسة على أحد أو حدث، بقدر ما تعطي الحرية للقول والفعل، فالثورة تأتي بالحرية، ولا تصنع لها صنماً جديداً. ولم يُنتج نمط الثورات العربية "المُحررّة للشعوب"، بموجتيها، مُقدّسين معصومين لا يخطئون. ومن حسن حظ هذه الثورات أن لم يعتلها قائد تحوّله بعد ذلك إلى زعيم جائر سلطوي، لا يجوز تناوله بالنقد، إلا أن مهزومين لا يفتأون عن ادّعاءات جنونية باحتكار الثورة أو الدعوة إليها منفردين، أو الرهان على هشاشة التاريخ، كما يظنون، في أن الناس لن تبحث وتتقصى وتعي أن الثورات العربية لم تضع مُقدّسين على رؤوسها، وتنزلهم منازل التنزيه عن النقد، حتى لو أعلنوا الجنون والخروج عن المألوف، أو ذُلّوا واعتنقوا خساسة الخيانة والعمالة ليبثوا سمومهم، معتمدين على "قُدسية متخيّلة" منحها لهم بعض الناس، نظير دورٍ لم يخضع للتمحيص بعد.
كانت أزمات الثورات (أو هزائمها) في دول عربية كثيرة كاشفة حجم المأساة الفكرية التي
تعيشها النخب السياسية والأكاديمية والنشطاء في كثير من دول الثورات العربية، ولا سيما الموجة الأولى التي استوى قطافها، وظهر سلوك نخبها، سواء بالتوافق مع مبادئ تلك الثورات أو باعتناق دين الاستبداد. وتتمثل تجليات هذه الأزمة، الفكرية بأساسها، في تغليب "الأيديولوجي" على "الأخلاقي" في أدق اللحظات وأكثرها خطورةً في عمر الوطن، وأحاديث الثورة المصرية، خصوصاً، مليئة بالأمثلة التي تتكشّف يوماً بعد يوم، عمن خرجوا عن طهرانيتهم التي ظهروا بها للناس أيّاماً، و"القداسة" التي أُسبغت عليهم من كثيرين، غضّوا الطرف عن البذاءات التي خرجت منهم، حينما ارتدّوا عن مبادئ "الثورة"، ولا تزال الأزمات الفكرية والأخلاقية تتكشف في مسارات الثورات العربية، ولا سيما الثورة المصرية.
ختاماً، لا تعطي الثورات صكوك الغفران عمّا تأخر وتقدّم من الذنوب، فالذنوب في حق الشعوب جرائم، وإن تلت البطولات. ولا ينوب عن الشعوب معصومون لا ينالهم نقد، وإن حادوا عن مبادئ الثورة التي أقرّها الشعب وبذل في سبيلها الدم والتضحيات. الكل مسؤول إذا أجرم أو خان أو أفسد أو زلّت قدمه بعد ثبوتها. وإعادة كتابة التاريخ أمر مهم لا يغيب عن فقه الثورات، ولكنه لا يتأتّى بسردياتٍ زائفةٍ تقوم على حساب الضحية المكلومة التي لا تستطيع النطق أو الاستنطاق، أو لفرض لونٍ أو شخوصٍ على الشاشات كأصحاب الرؤى الواحدة التي تمثّل الثورات، أو تفتح خزائن الأسرار في غياب صانعي الأحداث.
حفلت الثورات العربية بكشف الستر عن أكاذيب الأنظمة التي مكّنتها من التحكّم بالشعوب عقوداً. وقد أنصفت الثورة المصرية الدور المحوري للفريق سعد الدين الشاذلي في انتصار أكتوبر 1973، وكرّمت روحه في ميدان التحرير يوم خلع حسني مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011، مع ميلاد انتصار أوليّ للثورة. وفضحت الثورة السورية اختطاف الجولان وأحاديث المقاومة والممانعة الرخيصة التي أسقطتها وحشية النظام في قتل شعبه، والعجز عن إطلاق رصاصة واحدة على أرض الجولان المحتل. وكشفت الثورة في ليبيا عن أكاذيب انقلاب معمر القذافي على الملك إدريس الذي كان يحرّم الكلام فيه، وتداولت الحكايات، وراح التاريخ يُكتب مرة أخرى. والأمثلة كثيرة في مختبرنا العربي الكبير، ولكن العِبرة أن الثورات العربية لم ولن تخلع ثوب القداسة على أحد أو حدث، بقدر ما تعطي الحرية للقول والفعل، فالثورة تأتي بالحرية، ولا تصنع لها صنماً جديداً. ولم يُنتج نمط الثورات العربية "المُحررّة للشعوب"، بموجتيها، مُقدّسين معصومين لا يخطئون. ومن حسن حظ هذه الثورات أن لم يعتلها قائد تحوّله بعد ذلك إلى زعيم جائر سلطوي، لا يجوز تناوله بالنقد، إلا أن مهزومين لا يفتأون عن ادّعاءات جنونية باحتكار الثورة أو الدعوة إليها منفردين، أو الرهان على هشاشة التاريخ، كما يظنون، في أن الناس لن تبحث وتتقصى وتعي أن الثورات العربية لم تضع مُقدّسين على رؤوسها، وتنزلهم منازل التنزيه عن النقد، حتى لو أعلنوا الجنون والخروج عن المألوف، أو ذُلّوا واعتنقوا خساسة الخيانة والعمالة ليبثوا سمومهم، معتمدين على "قُدسية متخيّلة" منحها لهم بعض الناس، نظير دورٍ لم يخضع للتمحيص بعد.
كانت أزمات الثورات (أو هزائمها) في دول عربية كثيرة كاشفة حجم المأساة الفكرية التي
ختاماً، لا تعطي الثورات صكوك الغفران عمّا تأخر وتقدّم من الذنوب، فالذنوب في حق الشعوب جرائم، وإن تلت البطولات. ولا ينوب عن الشعوب معصومون لا ينالهم نقد، وإن حادوا عن مبادئ الثورة التي أقرّها الشعب وبذل في سبيلها الدم والتضحيات. الكل مسؤول إذا أجرم أو خان أو أفسد أو زلّت قدمه بعد ثبوتها. وإعادة كتابة التاريخ أمر مهم لا يغيب عن فقه الثورات، ولكنه لا يتأتّى بسردياتٍ زائفةٍ تقوم على حساب الضحية المكلومة التي لا تستطيع النطق أو الاستنطاق، أو لفرض لونٍ أو شخوصٍ على الشاشات كأصحاب الرؤى الواحدة التي تمثّل الثورات، أو تفتح خزائن الأسرار في غياب صانعي الأحداث.
مقالات أخرى
04 يناير 2021
26 سبتمبر 2020
15 اغسطس 2020