لماذا "تعثّرت" الديموقراطيّة في الأردن؟

05 مايو 2014

مسيرة في عمّان ضد خطة كيري، مارس 2014 (Getty)

+ الخط -
لا يبخل المسؤولون الأردنيون في تذكير مواطنيهم بنعمة الأمن والأمان وفضيلة الاستقرار السياسي، ويحثّونهم على النظر عبر "النوافذ" إلى ما يحدث حولهم، ليتذكروا أهمية هذه الفضيلة، وليحمدوا الله أنّهم نجوا من عواقب ما حدث في المنطقة من زلزال الثورات، والتي تبيّن أنّها ليست ربيعاً أخضر، بل "دموياً" محشياً بالأشلاء والجماجم والفوضى.

لن نعجز عن الاصطدام بين فينة وأخرى بتصريح لمسؤول رفيع، كما يفعل رئيس الوزراء، عبد الله النسور، والذي يقول للأردنيين: "انظروا من حولنا في معظم الاتجاهات، وتَفَكّروا كيف استطاع الأردن أن ينجو، بإرادة الله، أولاً، وحكمة قيادته التي فهمت اللحظة التاريخية، وأدركتها، وسابقت الزمن في إحداث الإصلاح، بحيث أنجزت إصلاحاً حقيقياً نظيفاً، وليس شكليّاً ولا مظهريّاً".
ربما لا يختلف مراقبون كثيرون مع النسور في أهمية الأمن والاستقرار، فهذه الميزة، على الأقل مرحلياً وآنياً، تحتل زوايا الرؤية كاملة لدى المواطن الأردني، لكنّ ما هو موضع للاختلاف والجدال والنقاش ادّعاء رئيس الحكومة إنجاز "إصلاح حقيقي نظيف، ليس شكلياً ولا مظهرياً"!
بعد ثلاثة أعوام من الحديث المتخم عن الإصلاح في الأردن، ومن التعديلات الدستورية والانتخابات البرلمانية والبلدية واللجان المتعددة، لا نجد أي فرق نوعي وحقيقي في المعادلة السياسية ما قبل 2011 وما بعدها، لا في تشكيل الحكومات، ولا في توزيع كعكة السلطة، ولا في تكريس مبدأ تداول السلطة، ولا في رفع مستوى الحريات العامة، أو حماية حقوق الإنسان، ولا في التأكيد على مبدأ المواطَنة وسيادة القانون.
في نهاية اليوم، استمرّ قانون انتخابات "الصوت الواحد" (أجريت بحسبه الانتخابات النيابية الأخيرة) يكبِّل الحياة السياسية والحزبية في البلاد، ويمنع أي خطواتٍ نوعية للتقدّم إلى الأمام، وبقيت عملية صناعة القرار حكراً على نخبة محدّدة، خارج السياق المؤسسي الدستوري، فيما لم تشهد الحريات العامة والإعلامية أيّ تطوّر حقيقي، بل تشير أغلب التقارير الدولية والمحلية لرصد مؤشرات هذه الأوضاع، مثل تقارير "فريدوم هاوس" و"مراسلون بلا حدود"، إلى تراجع كبير في الحريات الإعلامية والعامة!
إذا تجاوزنا السجال السياسي بين الحكم والمعارضة، ودخلنا إلى صلب الرهانات الحقيقية للنظام في مرحلة الربيع العربي، سنجد أنّها تتأسّس، ابتداءً، على موقف سلبي، ومتخوّف من هذه اللحظة التاريخية، فلم ينظر إليها صانع القرار (في عمّان)، بوصفها فرصة سانحة للمضيّ خطوات إلى الأمام في مسيرة الديموقراطية المتعثّرة، ولا حتى بوصفها تحدّياً، يمكن التعامل معه عبر معادلة تصوغ الخطوات المطلوبة التي توازن بين خطوات حقيقية في الإصلاح من جهة والبنية الصلبة من الحكم من جهة أخرى، كما هي حال المغرب العربي؛ بل نظرت دوائر الحكم (في الأردن) إلى تلك اللحظة بوصفها "تهديداً" للدولة والنظام، وتعاملت معها كـ"عاصفة عابرة"، لتقليل حجم الأضرار والخسائر!
ارتبطت هذه الرؤية الأردنية لتلك اللحظة بمعادلاتٍ داخلية وخارجية. فداخلياً حُكمت رؤية الملك لجماعة الإخوان المسلمين بالشك وعدم الثقة، واختُزل الإصلاح السياسي في حسابات الربح والخسارة بين الطرفين، وكأنّها "معادلة صفرية": ما تخسره يكسبه الخصم، والعكس صحيح، فكانت النتيجة هي الحرص الكبير على عدم تقديم تنازلات جوهرية في صنع القرار، والمراوغة مع الخصوم السياسيين لكسب الوقت، والخروج من "عنق الزجاجة".
أمّا خارجياً، فارتبط الموقف السلبي الأردني (من لحظة الربيع العربي) بطبيعة التحالفات الأردنية الإقليمية والعالمية، فإقليمياً، اصطفّ الأردن في خندق الدول المحافظة (ما يسمّى معسكر الاعتدال العربي)، وهو معسكر تعرّض لزلزال عنيف مع انفجار الثورات الشعبية، وأصيب بالهلع من انتصار الإسلاميين في الانتخابات المصرية والتونسية، لكنه سرعان ما التّف على هذه التطورات، عبر العمل على تشكيل تحالف إقليمي ضد الإسلاميين، وبعبارة أدقّ، خندق ضد التغيير، فدعموا الثورة المضادة في مصر، ونجم عن ذلك حظر جماعة الإخوان المسلمين، في السعودية والإمارات، وإعلانها جماعةً إرهابية.

خارجياً، أيضاً، لم تخدم علاقة الأردن بالولايات المتحدة عملية الإصلاح السياسي، إذ كانت الضغوط الأميركية ناعمة ومحدودة، والعلاقة بين الدولتين تقوم على "المصالح المتبادلة" والتحالف الأمني الإقليمي، وهو عامل أكثر أهمية وقيمة لدى واشنطن من الديموقراطية في الأردن، والتي تمثّل قضية ثانوية وجزئية في العلاقات الثنائية.

وعلى الرغم من أنّ الأردن لم يجارِ حلفاءه العرب في حظر جماعة الإخوان، واعتبارها إرهابيةً، وذلك لاختلاف المعطيات الداخلية عن تلك الدول، إلاّ أنّه، في المقابل، لم يتعامل بودّ مع الجماعة ذات الشعبية، وأكبر قوى المعارضة السياسية في البلاد، ولم يقم بخطوات من أجل إعادتها إلى "اللعبة السياسية"، وفي الوقت نفسه، يشارك بفعالية في الأجندة الإقليمية (للدول العربية المناهضة للربيع العربي) في محاربة الأجندة الإقليمية الأخرى (التركية ـ القطرية)، والتي تراهن على التغيير الديموقراطي، وتدفع باتجاه احتواء القوى الإسلامية، لا إقصاءها.
يغطُسُ وراء هذه الرهانات والمعطيات، في ترسيم السياسات الداخلية والخارجية الأردنية، مبدأٌ يسكن في عقل صانع القرار الأردني، ويتجاوز اللحظة الراهنة، إلى الرؤية الإجمالية لمسار الديموقراطية في الأردن، وهو الإيمان الكامل بأنّ استقرار الأردن سياسياً، وأمنه الوطني، لا يتزاوجان مع بناء ديموقراطية حقيقية، أو شبه حقيقية في البلاد! فمعطيات الموقع الجيو ـ استراتيجي، وطبيعة نظام الحكم، والعلاقة مع القوى العظمى والتركيبة الديموغرافية، هي (في منظور صانع القرار والحلقة الصلبة للحكم تاريخياً) محدّدات جوهرية، تُحَجِّم أي محاولات، أو قفزات حقيقية، في الإصلاح الديموقراطي، وتجعل الحكومات مع القوى السياسية، مع الرأي العام، يدورون، جميعاً، في حلقة مفرغة منذ عقودٍ طويلة، وليس فقط في لحظة الثورات والربيع العربي!
ما لم تتغيّر تلك القناعة الصلبة المحافظة، والتي كانت السبب في وأد أي محاولات سابقة في اجتراح مسار ديموقراطي، وما لم تنضج حالة وطنية شعبية عامة، وقوية، تشكّل ضغطاً حقيقياً على صانع القرار، تجبره على المضيّ قدماً بهذا الاتجاه، فستبقى دائماً قضية الاستقرار السياسي ذريعةً صلبةً لمواجهة أي أفكار، أو محاولات من داخل النظام، أو من خارجه، للخروج من هذه الحلقة المفرغة، وتغيير المسار المتعثّر! 
محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.