19 نوفمبر 2024
لماذا تغيّرت رهانات عمّان؟
يُلقي اغتيال قائد جيش الإسلام البارز، زهران علوش، في ريف حلب، في نهاية العام الماضي، ظلالاً كبيرة على "المعادلة الأردنية" في سورية، فهو (الاغتيال) ليس حادثاً منعزلاً مجرداً من سياقاته ودلالاته وتداعياته، إذ تزامنت لحظته تماماً بالاتفاق الغامض بين تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة من جهة والنظام السوري من جهة أخرى لإجلاء المقاتلين مع عائلاتهم، بما يقدّر بآلاف البشر، من مخيم اليرموك والحجر الأسود، ثم تلاه المضي باتفاق الزبداني (برعاية إيرانية وتركية) لتبادل سكان الزبداني بسكان قريتي الفوعا وكفريا الشيعيتين.
لا تحتاج هذه التطورات إلى تفسير أو تحليل لتكشف أن هنالك خطّة جادة من المحور الإيراني- الروسي، من أجل السيطرة الكاملة على ريف دمشق، غداة المحادثات المنتظرة في نيويورك بين النظام والمعارضة لفرض واقع جديد وتغيير موازين القوى وإخراج هذه المناطق الاستراتيجية من حسبة المعارضة كلياً.
لا يعني ذلك، بالضرورة، القضاء العسكري المبرم على المعارضة المسلحة هناك، فهو أمر غير ممكن، خصوصاً في الغوطة الشرقية، معقل جيش الإسلام، لكن النظام يدفع السكان إلى عقد تسويات شبيهة بمناطق أخرى في ريف دمشق، من أجل مبادلة فك الحصار ووقف القصف بخروج المعارضة المسلحة والاستسلام، ما يفسر ارتفاع وتيرة القصف الروسي المحموم ضد قرى ريف دمشق وبلداته في الأسابيع الأخيرة.
هاجمت دول عربية وغربية عديدة التدخل الروسي واغتيال علوش والقصف العشوائي للمدنيين في ريف دمشق، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية والسعودية وتركيا بطبيعة الحال. لكن، يبقى الموقف الغامض هو الموقف الأردني، الذي التزم الصمت في موضوع قتل علوش وما تلاه من أحداث، على الرغم من أنها تمسّ الأمن الوطني الأردني بدرجة رئيسة.
تبدو المفارقة، هنا، في أن علوش نفسه كان يعتبر، في أوقات عديدة، حليفاً وصديقاً للأردن، ويحل، في أوقات مختلفة، ضيفاً مرحباً به لدى قادة التيار السلفي التقليدي المقرب من دوائر القرار في الدولة. على الرغم من ذلك، لم نعرف الموقف الأردني من اغتياله عبر طائرات روسية أو سورية أيّاً كان الفاعل، وما تلا ذلك من محاولة إطباق الخناق على ريف دمشق، ما يعني أن النظام في وضع مبادرةٍ، لا دفاع في مواجهة القوى المعارضة في درعا، والمدعومة أردنياً.
إذا تجاوزنا مقتل علوش وريف دمشق، فإنّ ما يغلّف الموقف الأردني بالغموض أو/ ورهانات عمان بالضبابية هو الموقف من الهجوم العسكري الواسع الذي يشنه جيش النظام السوري، بدعم كبير من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله على محافظة درعا، بدءاً من بلدة الشيخ مسكين.
الغريب في الأمر أنّ اجتماعات عقدت بين الملك عبدالله الثاني والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غداة التدخل العسكري الروسي، قبل أشهر، ودلّت التسريبات، شبه المؤكدة، على أن "تفاهم جنتلمان" جرى بينهما على تحييد المنطقة الجنوبية من سورية من المعركة الحالية والالتزام بالحفاظ على الوضع القائم Status Qi.
على ذلك الأساس من التفاهمات، أوقف الأردن عمل غرفة العمليات المشتركة (الموك) في إدارة المعارضة العسكرية في الجنوب، وألزمت عمّان حليفها العسكري الأكبر، الجبهة الجنوبية، بوقف العمليات العسكرية، بعدما كانت الأخيرة تحقق تقدماً عسكرياً ملموساً عشية التدخل الروسي، الذي جاء، في الأصل، لإنقاذ النظام السوري من الانهيار العسكري المتسارع حينها.
الآن، من الواضح أن هنالك مشروعاً إيرانيا للسيطرة على المناطق الجنوبية في سورية، أو على الأقل ريف حوران الاستراتيجي، ما يعني، بحسابات صانع القرار الأردني، أن هنالك احتمالية لهجرة قرابة نصف مليون سوري إلى الأردن، ما يهدد بدوره الأمن الأردني على أوسع مدى.
في بداية العام الماضي 2015، فتح الأردن الباب واسعاً لمرور السلاح النوعي والذخيرة للمعارضة السورية، عندما قاد قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بنفسه حملة عسكرية شرسة للسيطرة على المنطقة نفسها، ما قلب المعادلة، وأضعف الوجود العسكري للنظام كلياً، وكان الأردن قد أطلق تحذيراً شديداً، عبر القنوات الخلفية، بأنّ المنطقة الجنوبية خطّ أحمر، ولن نسمح باختلال كبير فيها، لأنه يعني مئات الآلاف المهجّرين إلى الأردن.
أما مع الحملة العسكرية الراهنة، فلم يحرّك الأردن (إلى الآن) ساكناً، ويبدو موقفه أكثر تعقيداً وغموضاً. فلا نعرف إذا كان الهجوم الإيراني- السوري كسر الاتفاق، أم أن رهانات عمّان تغيرت، ونأى الأردن بالفعل بنفسه عن أي تطورات عسكرية في هذه المنطقة؟ ولا نعرف فيما إذا كان مستعداً لقبول الحرس الثوري على حدوده الشمالية، أو أنه سيتخلى عن حليفه الذي يبدو اليوم مرتبكاً، هو الآخر، والمقصود هنا الجبهة الجنوبية؟ وما هو تأثير ذلك على قاعدة تحالفاته وشريكه السعودي الذي يمثل مقتل علوش، وما بعده، ضربة روسية له؟
ثمة تغيرات ملموسة على الرهانات الأردنية، لكننا لا نعرف إلى أي سقف وصلت إلى مباركة عودة المناطق الجنوبية إلى النظام، وتفضيل الجيش السوري على المعارضة؟ أم فقط إلى عدم التدخل نهائياً، أم أن هنالك ترقب وحذر أردني في متابعة التطورات على الساحة الجنوبية في سورية؟
تميز الموقف الأردني إلى الآن ببراغماتية شديدة تجاه الملف السوري، وبالتعامل المرن مع تغير موازين القوى، وفي الوقت نفسه، بالتعقيد، ففي وقت دعم فيه صنفاً من المعارضة، وقف ضد الآخر، وشهدت علاقته بالنظام السوري تغيرات جوهرية، لكنه، خلال تلك المنعرجات، حافظ على درجة مهمة ومريحة من مساحة الأمان في المنطقة الجنوبية السورية، طورت دوائر القرار في عمّان نظرية "الوسائد"، أي شبكة التحالفات مع المجتمع المحلي في حوران وفصائل الجيش الحرّ، وهي المقاربة والنظريات التي تقع حالياً تحت اختبار مهم ومفصلي.
لا تحتاج هذه التطورات إلى تفسير أو تحليل لتكشف أن هنالك خطّة جادة من المحور الإيراني- الروسي، من أجل السيطرة الكاملة على ريف دمشق، غداة المحادثات المنتظرة في نيويورك بين النظام والمعارضة لفرض واقع جديد وتغيير موازين القوى وإخراج هذه المناطق الاستراتيجية من حسبة المعارضة كلياً.
لا يعني ذلك، بالضرورة، القضاء العسكري المبرم على المعارضة المسلحة هناك، فهو أمر غير ممكن، خصوصاً في الغوطة الشرقية، معقل جيش الإسلام، لكن النظام يدفع السكان إلى عقد تسويات شبيهة بمناطق أخرى في ريف دمشق، من أجل مبادلة فك الحصار ووقف القصف بخروج المعارضة المسلحة والاستسلام، ما يفسر ارتفاع وتيرة القصف الروسي المحموم ضد قرى ريف دمشق وبلداته في الأسابيع الأخيرة.
هاجمت دول عربية وغربية عديدة التدخل الروسي واغتيال علوش والقصف العشوائي للمدنيين في ريف دمشق، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية والسعودية وتركيا بطبيعة الحال. لكن، يبقى الموقف الغامض هو الموقف الأردني، الذي التزم الصمت في موضوع قتل علوش وما تلاه من أحداث، على الرغم من أنها تمسّ الأمن الوطني الأردني بدرجة رئيسة.
تبدو المفارقة، هنا، في أن علوش نفسه كان يعتبر، في أوقات عديدة، حليفاً وصديقاً للأردن، ويحل، في أوقات مختلفة، ضيفاً مرحباً به لدى قادة التيار السلفي التقليدي المقرب من دوائر القرار في الدولة. على الرغم من ذلك، لم نعرف الموقف الأردني من اغتياله عبر طائرات روسية أو سورية أيّاً كان الفاعل، وما تلا ذلك من محاولة إطباق الخناق على ريف دمشق، ما يعني أن النظام في وضع مبادرةٍ، لا دفاع في مواجهة القوى المعارضة في درعا، والمدعومة أردنياً.
إذا تجاوزنا مقتل علوش وريف دمشق، فإنّ ما يغلّف الموقف الأردني بالغموض أو/ ورهانات عمان بالضبابية هو الموقف من الهجوم العسكري الواسع الذي يشنه جيش النظام السوري، بدعم كبير من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله على محافظة درعا، بدءاً من بلدة الشيخ مسكين.
الغريب في الأمر أنّ اجتماعات عقدت بين الملك عبدالله الثاني والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غداة التدخل العسكري الروسي، قبل أشهر، ودلّت التسريبات، شبه المؤكدة، على أن "تفاهم جنتلمان" جرى بينهما على تحييد المنطقة الجنوبية من سورية من المعركة الحالية والالتزام بالحفاظ على الوضع القائم Status Qi.
على ذلك الأساس من التفاهمات، أوقف الأردن عمل غرفة العمليات المشتركة (الموك) في إدارة المعارضة العسكرية في الجنوب، وألزمت عمّان حليفها العسكري الأكبر، الجبهة الجنوبية، بوقف العمليات العسكرية، بعدما كانت الأخيرة تحقق تقدماً عسكرياً ملموساً عشية التدخل الروسي، الذي جاء، في الأصل، لإنقاذ النظام السوري من الانهيار العسكري المتسارع حينها.
الآن، من الواضح أن هنالك مشروعاً إيرانيا للسيطرة على المناطق الجنوبية في سورية، أو على الأقل ريف حوران الاستراتيجي، ما يعني، بحسابات صانع القرار الأردني، أن هنالك احتمالية لهجرة قرابة نصف مليون سوري إلى الأردن، ما يهدد بدوره الأمن الأردني على أوسع مدى.
في بداية العام الماضي 2015، فتح الأردن الباب واسعاً لمرور السلاح النوعي والذخيرة للمعارضة السورية، عندما قاد قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بنفسه حملة عسكرية شرسة للسيطرة على المنطقة نفسها، ما قلب المعادلة، وأضعف الوجود العسكري للنظام كلياً، وكان الأردن قد أطلق تحذيراً شديداً، عبر القنوات الخلفية، بأنّ المنطقة الجنوبية خطّ أحمر، ولن نسمح باختلال كبير فيها، لأنه يعني مئات الآلاف المهجّرين إلى الأردن.
أما مع الحملة العسكرية الراهنة، فلم يحرّك الأردن (إلى الآن) ساكناً، ويبدو موقفه أكثر تعقيداً وغموضاً. فلا نعرف إذا كان الهجوم الإيراني- السوري كسر الاتفاق، أم أن رهانات عمّان تغيرت، ونأى الأردن بالفعل بنفسه عن أي تطورات عسكرية في هذه المنطقة؟ ولا نعرف فيما إذا كان مستعداً لقبول الحرس الثوري على حدوده الشمالية، أو أنه سيتخلى عن حليفه الذي يبدو اليوم مرتبكاً، هو الآخر، والمقصود هنا الجبهة الجنوبية؟ وما هو تأثير ذلك على قاعدة تحالفاته وشريكه السعودي الذي يمثل مقتل علوش، وما بعده، ضربة روسية له؟
ثمة تغيرات ملموسة على الرهانات الأردنية، لكننا لا نعرف إلى أي سقف وصلت إلى مباركة عودة المناطق الجنوبية إلى النظام، وتفضيل الجيش السوري على المعارضة؟ أم فقط إلى عدم التدخل نهائياً، أم أن هنالك ترقب وحذر أردني في متابعة التطورات على الساحة الجنوبية في سورية؟
تميز الموقف الأردني إلى الآن ببراغماتية شديدة تجاه الملف السوري، وبالتعامل المرن مع تغير موازين القوى، وفي الوقت نفسه، بالتعقيد، ففي وقت دعم فيه صنفاً من المعارضة، وقف ضد الآخر، وشهدت علاقته بالنظام السوري تغيرات جوهرية، لكنه، خلال تلك المنعرجات، حافظ على درجة مهمة ومريحة من مساحة الأمان في المنطقة الجنوبية السورية، طورت دوائر القرار في عمّان نظرية "الوسائد"، أي شبكة التحالفات مع المجتمع المحلي في حوران وفصائل الجيش الحرّ، وهي المقاربة والنظريات التي تقع حالياً تحت اختبار مهم ومفصلي.